طالب الدب بالمشي على خيط رفيع من دون أن ينحرف يميناً أو ينحرف يساراً، وقبل أن يستثمر الوقت والجهد لتدريبه على المهمة الصعبة، وجد الدب يميل بكل قوته هنا أو ينزلق بكامل بأسه هناك كابساً على أنفاس هؤلاء أو ضاغطاً على صدور أولئك إلى أن يفتك بهم بقبضته الأمنية العاتية. وحين تحدّق الديوك الرومية في السماء بلا حراك ومن دون سبب واضح، يتولّد لدى المراقب شعور بأنها طيور غبية حمقاء. لكن الحقيقة أنها نشأت على ذلك وتتصرف بحماقة لأن أحداً لم يعلمها أو يقوّمها، بل تم الإبقاء على حماقتها والاكتفاء برضائها بالمشي ضمن قطيع مسلوب الإرادة محروم الفكر حيث السمع للقائد والطاعة للمرشد. ويضاف إلى تحديق الديوك في السماء التصميم البيولوجي لعينيها الشديدتي الابتعاد عن بعضها بعضاً، ما يمنعها من رؤية المشهد بأبعاده المكتملة، فلا تتمكن إلا من رؤية جانب واحد لا ثاني له من الواقع. أما الطيور الطنانة فرغم حجمها الصغير وشكلها الجميل وحركتها النشيطة وشبابها الطامح وثوريتها الرشيقة، فإنها كثيراً ما تخطئ في تقدير الأوضاع وقياس الأحوال، فتجد نفسها في مواقف صعبة قلما تخرج منها سالمة غانمة، لا سيما أن عظامها الصغيرة، رغم صحتها الموفورة، تبقى مفرغة لتمكنها من الطيران، أحياناً على غير هدى، ما يدخلها عش الدبابير. ومعروف أن الدبور بأنواعه من الطفيليات التي تتطفل على غيرها من الكائنات بل إنها تستخدم العناكب كعوائل إنجابية تمكنها من تحقيق الطموحات وضمان الغايات وركوب الثورات في عالم الحيوان. عوالم متداخلة متشابكة متصارعة يراقبها الإنسان ويتابعها بعين العالم مرات وعين المتعظ مرات أخرى، فيجد عالمه قريب الشبه وطيد الصلة. ولعل التساؤل التشبيهي الإسقاطي الاستنكاري: «كيف نطلب من الدب المشي على خيط رفيع بين يوم وليلة؟» حول شبه استحالة تعامل منظومة الأمن مع المتظاهرين وفق ما ورد في كتاب قانون التظاهر الرقم 107 لسنة 2013 والالتزام الحرفي بمكنونه والوفاء النصي بشروطه والتحلي العصبي بروحه الهادفة إلى الحفاظ على أمن الوطن ودعم سلامة المواطن وتوفير الحماية للجميع (على الأقل ورقياً) أبلغ تشبيه للواقع. الواقع المختلطة أوراقه وفواتيره التي تعود إلى عقود من حكم الفرد وإذعان المؤسسات للشلل المقربة من الحكم وفساد الكبار على حساب الصغار وتهيِئ ملعب الوطن لجماعات وجمعيات تؤسس لمستقبلها وتبني طموحاتها بطرح سنداتها وأرصدتها في بورصة الفقراء والمهشمين لجني الأرباح في غد قريب يتجسد في مصر اليوم. وإذا كان الدبور يقتات على غيره من الكائنات ليصح جسده ويقوى بنيانه، فإن محاسبة أو معاقبة الكائنات التي يقتات عليها ليس إلا ضرباً من السفه ونوعاً من الهطل. «الهطل الثوري» الذي يصف به بعضهم قواعد «الإخوان» وأتباع الجماعة ومحبي الرئيس المعزول محمد مرسي ممن يجهزون اليوم لإحدى مليونيات القصاص الكلاسيكية التي شهدتها مصر على مدار الأعوام التالية للربيع العربي ليس إلا جانباً من الهطل الكلي لمسار الثورة وما آلت إليه وما لحق بها. مليونية القصاص التي يطالب مشاركوها اليوم بالقصاص لمن قتلوا في فض اعتصامّي رابعة والنهضة، وهو القصاص المجتزأ، إذ إن ضيق الأفق والتزام السمع والطاعة وعدم السماح للمنطق باختراق الحاجز العقلي والذي يجعل الديوك الرومية تحدق في السماء من دون سبب، هو نفسه الذي يجعل قواعد الجماعة لا ترى من القصاص إلا ذلك الذي لقتلاها من دون كل من قتلوا منذ هبوب الربيع. وبما أن أبواق الجماعة الإعلامية تدعو إلى «مليونية هادرة» عنوانها «القصاص قادم»، وحكماءها المغردين يطالبون بـ «وقفات ثائرة» و «مسيرات هائلة»، ومنظريها الإعلاميين يرفعون لافتات «حكومة منفى» و «جيش حر» و «ميليشيات السيسي»، فالمتوقع أن تتبع القواعد ويمتثل المحبون ويلبي المتعاطفون نداء القيادة لأنها الأعلم والأحكم والأرشد. وإذا كانت عيون الجماعة، بحكم النشأة والتربية، لا تسمح لها برؤية الواقع من منظور عين واحدة، فإن تصديق القواعد لهدر مليونية اليوم وتلبية الشعب المصري لدعوة الاحتشاد في الميادين والتفاف الحشود حول شارة «رابعة» الأردوغانية المعبرة عن أهل وعشيرة لا وطن ومواطنين مبرره أحادية الرؤية. ولا تنافس على أحادية الرؤية في المشهد المصري الحالي من حيث الآثار العكسية والنتائج غير المرجوة سوى تغريد مجموعات الطيور الثورية الشبابية الطنانة خارج السرب الشعبي غير الطنان. فرغم العودة المحمودة لشباب وشابات تصدروا مشهد كانون الثاني (يناير) 2011 بعد طول غياب، وربما طول إحباط، إلا أن أسلوب العودة وتوقيته وسرعته المتواترة وحدته المتصاعدة يعرّضها وما حولها لهجمات مرتدة وانقضاضات محتدة وتشرذمات محتدمة. تحركات الشباب الرشيقة وقفزاتهم الخفيفة ومثاليتهم الرقيقة تثير الفخر الأبوي والوله الثوري لكنها في الوقت نفسه تفجّر غضباً شعبياً وحنقاً أهلياً، باستثناء حكماء «الإخوان» ومن ثم قواعدهم الذين رأوا فيها فرصة ذهبية لمعاودة الانقضاض تلوح في الأفق. ورغم أن رؤية الأفق شبه منعدمة هذه الأيام، إلا أن قواعد التعامل والتعايش معروفة ومنصوص عليها منذ القدم، حتى في أعتى الغابات. ورغم المعتقد الشائع بأن الأسد هو الأقوى على الإطلاق، وهو ما يدعو الفرق المتناحرة إلى نسب مرسي إليه حيناً والسيسي إليه حيناً، فقد ورد في «ناشونال جيوغرافيك» أن أقوى وأعتى الحيوانات على وجه الأرض إطلاقاً هو الفيل. ورغم ملامح الطيبة الجلية على وجهه، وبطء حركته الواضحة في مشيته، إلا أنه قادر على دهس أحدهم أو سحق آخر من دون أن يدري. ولعل توقيت إصدار قانون التظاهر يذكر بعضهم بقوة الفيل وحماقة أفعاله أحياناً. بقيت الإشارة إلى أن أهم الحيوانات على الإطلاق ليس أقواها بالضرورة، فقد يكون أكبرها أو أذكاها أو أسرعها، وربما أصغرها.
مشاركة :