الفاشية قادمة بخطى حثيثة في بلد حقوق الإنسان المواقع الاجتماعية تطفح بخطاب عنصري معاد لليهود والمسلمين والسود يقف وراءها فرنسيون بيض يحرضون على الكراهية. حركات متطرفة تولد في العلن تجتاح فرنسا منذ أعوام أحداثٌ تقرض يوما بعد يوم المبادئ التي قام عليها بلد حقوق الإنسان. فمن دعوات عنصرية إلى تطهير البلاد من الأجانب وحركات رجعية تناهض المساواة في الحقوق، إلى الاعتداء على المهاجرين، مرورا بقمع المتظاهرين وتعنيف شباب الضواحي والتضييق على الحريات، يزداد الوضع السياسي تعفّنا يوحي بأن الفاشية لم تعد فرضية مجردة، بل صارت حقيقة ممكنة. عندما تثار هذه القضية، يبادر بعض المحللين بطرح أسئلة إنكارية من نوع “كيف لبلد حقوق الإنسان أن ينجب الوحش الفاشي؟ ألم يقف موقفا معاديا للفاشية طوال القرن العشرين؟ ألم يتخل حزب التجمّع الوطني (الجبهة الوطنية سابقًا) عن مشروعه القومي المتطرف، العنصري والتسلطي الذي اتسم به منذ تأسيسه؟ ألا نشهد انتعاش الرأسمالية الفرنسية بقيادة رئيس شابّ ما انفك يقوم بالإصلاحات اللازمة؟”، غير أن محللين آخرين يرون العكس، ويدعون صراحة إلى ضرورة التصدي قبل فَوْت الأوان لما يعتبرونه خطرا حقيقيا يهدد بعودة الفاشية، وذلك بمقاومة اليمين المتطرف وأتباعه، والوقوف أيضا في وجه السياسات المدمرة التي تساهم في صعوده، وإدانة محاولات فرض واقع لا ينبئ بخيرٍ بالقوة. والأمثلة على تصاعد العنف الراديكالي أو القمع البوليسي كثيرة، رأينا ذلك خلال مظاهرات السترات الصفراء، مثلما رأيناه في المنابر الجامعية، حين اقتحم ملثمون جامعة مونبلييه منذ ثلاث سنوات ليعنفوا طلبة عارضوا قانون التوجيه، حيث تبين أن عميد الجامعة هو الذي حرّض المقتحمين على ارتكاب تلك العملية، دون أن يثير تورّطه غير مواقف محتشمة، سواء من الحكومة ووزارة الإشراف أم من النخبة الثقافية والسياسية. وفي غياب ردّة فعل قوية يتواصل الخطاب العنصري في بعض وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، والعنف السياسي، وتحجيم المناضلين، وتواطؤ النخب المسؤولة. أي أن كل عناصر الفاشية باتت اليوم متوافرة، ولو أن المصطلح لا يرد ذكره حتى الآن إلا في دوائر ضيقة، كالمناضلين أو بعض الباحثين مثل عالم الاجتماع أوغو بالييتا الذي أصدر كتابا بعنوان مثير “إمكانية الفاشية، فرنسا، مسار الكارثة”، لاقتناعه بضرورة تسمية الشّر إن كنا نريد مقاومته. والكاتب إذ يستحضر مصطلح الفاشية من ماض عاشته أوروبا ما بين الحربين، فلِاقتناعه بأن التشكيلات الحزبية تشترك في مشروع يهدف إلى إعادة الحياة لمجموعة بشرية “عضوية” عبر التصفية العرقية وإلغاء كل شكل من أشكال النضال الاجتماعي. غير أنه لا يركز على الفاشية كما تجلت في القرن الماضي قدر تركيزه على الظروف التي تُهيّئ لعودتها. ويستعير من أنطونيو غرامشي عبارة “أزمة الهيمنة” ليبين كيف أن النخب الفرنسية، إذ تريد فرض نموذج نيوليبرالي، تقوّض بنفسها أسس التوافق الاجتماعي الذي يستند إليه التراكم الرأسمالي في فرنسا، وتضعف الوساطات الثقافية والأيديولوجية والسياسية، ما يؤدّي إلى “عدم استقرار الهيمنة”. والمعلوم أن “أزمة الهيمنة” التي عناها المفكّر الماركسي الإيطالي هي عجز المهَيمِنين على كسب رضا المهيمَن عليهم، وخاصة قبول أغلبية الشعب شرعية السياسات المتّبعة؛ وهي أيضا أزمة تمسّ الأشكال التقليدية لمناهضة الهيمنة، التي تنهض بها الحركة العمّالية في مختلف فروعها النقابية والسياسية والشيوعية والاشتراكية. والأزمة الحالية التي تمرّ بها فرنسا في تصور بالييتا لها أوجه ثلاثة: أزمة نيوليبرالية، وتحوّل استبدادي للدولة، وتطور سريع لقومية عنصرية. في المسألة الأولى، يستعيد بالييتا عددا من التحاليل التي أجريت في منعطف الثمانينات في شتى أنحاء الدول الغربية، ومن مظاهرها سياسية تدمير دولة الرفاه، وعولمة الاقتصادات وأَمْوَلتها، وتفكيك حقوق العمال، وتفاقم التفاوت في الثروة على نطاق عالمي. واستنادا إلى أشغال الأميركية ويندي براون، أستاذة العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا، عن الطريقة التي صيغت بها هذه الثورة المضادّة كردّ فعل للموجة الديمقراطية خلال الستينات والسبعينات، يبين الكاتب كيف وُضعت أجندا حقيقية للتخلي عن الديمقراطية، كوسيلة للحد من النزاعات الاجتماعية. ثم كانت أزمة عام 2008 لتعلن عن فشل الهجمة النيوليبرالية، وهي أزمة لم يغادرها الغرب حتى اليوم. ولئن كانت الحالة عامّة، فإن الكاتب يلاحظ أن فرنسا تعيش وضعا خاصا، حيث كان لموجة الاحتجاجات الاجتماعية، التي تكاد لا تنقطع منذ عام 1995، أثرٌ في ترك مشروع التدمير الثاتشري في منتصف الطريق، مُحدِثًا أزمة الهيمنة على نحو جعل الحركات الاجتماعية والنخب عاجزة عن إيجاد مشروع مجتمعي متناسق، وفرضه على جميع الأطراف. أما عن مسألة التحول الاستبدادي للدولة، فالكاتب لا يأتي بجديد، بل يكتفي بإعادة ما تمّ تداوله حتى في وسائل الإعلام عن حالة الطوارئ، ليبين تصلّب سياسات ما أسماه “الذراع اليمنى للدّولة”، أي الشرطة والعدالة، وما ترتب عنها من قوانين استثنائية، استعملتها الدولة للتضييق على الحريات وتقليص حجم المظاهرات العمالية والجمعياتية والحزبية. ففرنسا تعيش اليوم تحت نظام لا يخضع للديمقراطية البرلمانية أو الليبرالية بالمعنى الكلاسيكي، حيث لرئيس الدولة سلطات تكاد تكون مطلقة، وحيث الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية صوريٌّ تقريبا، وحيث الحريات الأساسية لا تنفك تتآكل بفعل قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب التي صارت تُستعمل ضد الحركات الاجتماعية وضد جانب من المواطنين، ولاسيما المسلمين الذي صاروا ينعتون بـ”أعداء الداخل”، أي أنها تتبنى إلا ما ندر خطاب اليمين المتطرف. ولعل أهمّ ما في الكتاب معالجته المسألة الثالثة التي تخصّ الهجمة العنصرية الحالية، ويستهلّها الكاتب بنقد الفكر الماركسي الذي يزعم أنّ العنصرية قناع السلطة وأفيون الشعب، ففي رأيه أن الطبقة الشعبية لا تصوّت لحزب مارين لوبان بحثا عن بديل لحكام فاشلين، بل لكون أفرادها عنصريين في الأصل، معادين للإسلام والسامية؛ وأن القراءة الآلية للفكر الماركسي تحول دون رؤية موقع الأيديولوجيا في التصرفات السياسية. فمنذ الثمانينات، ثم مع وصول ساركوزي إلى سدّة الحكم، واتهام الآخر المختلف، مهاجرا كان أم مقيما، بتردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، انفلتت العنصرية من عقالها، وصارت عنصرا من عناصر الخطاب المعتاد، ليس لدى اليمين وحده، بل لدى قوى اليسار أيضا، (رئيس الحكومة الأسبق الاشتراكي مانويل فالس نموذجا)، وبذلك ما انفك مركز ثقل الجدل الفرنسي ينزلق منذ عدة سنوات إلى اليمين. ثمّ اتخذت العنصرية شكل معاداة للمسلمين ودينهم، حيث رُسم خطّ أيديولوجي قويّ بين الجمهورية و”أعداء الداخل”. هذا الموضوع ليس تلهيةً للناخبين لصرف أنظارهم عن المسائل الاقتصادية كما يزعم بعض المحللين، بل هو الذي يستقطب الجدل السياسي الفرنسي اليوم، خاصة مع ظهور الصحافي إريك زيمور الذي ما فتئ يزايد على مارين لوبان في كراهيته للعرب والمسلمين والأجانب بوجه عام حتى كسب شعبية دفعته إلى التفكير في الترشح لرئاسيات الربيع المقبل. وكانت “العَلمانية” حصان طروادة في تحول هذه العنصرية، وثورة مضادة جعلت منها أداة ترويض اجتماعي، حيث عزلت الطبقات الشعبية في غيتو ضواحي المدن الكبرى من ناحية، ومن ناحية ثانية، خلقت “كتلة بيضاء” جديدة، أي هيمنة جديدة، هووية وغير محدّدة بالطبقات الاجتماعية التي فتّتَتْها السياسات النيوليبرالية، لمنعها من تشكيل كتلة ولو خاضعة. ويتوقف الكاتب عند الجبهة الوطنية، حزب جان ماري لوبان سابقا، والتجمع الوطني حاليا برئاسة ابنته مارين لوبان؛ هذا الحزب قام بعدّة تعديلات لمشروعه الأصلي، والعدول عن نقاط كثيرة من برنامجه، ولكن الأيديولوجيا الأساسية، القائمة على إعادة بناء هووي للأمة الفرنسية وإنعاشها بعد انحطاط، لا تزال هي نفسها. فالمزايدات العنصرية والمعادية للأجانب هي الحجر الأساس لمشروعه السياسي. الكتاب محاولة جادّة لتوصيف الوضع الراهن، ربط فيه صاحبه التحاليل التاريخية الحديثة لمفهوم الفاشية، وأصناف التحليل الماركسية، وخاصة الإرث الغرامشي، للتعبير عن مخاوفه مما ينتظر فرنسا لو يتفاقم الوضع ويتحول التجمع الوطني إلى حزب فاشي، مستفيدا من أزمة متعددة الأوجه للسلطة السياسية: أزمة الأيديولوجيا النيوليبرالية، التحول الاستبدادي للدولة، تفجر قومية عنصرية معادية للأجانب، وهي أزمات تمثل أرضية خصبة لظهور هيمنة حقيقية لسلطة فاشية. لم يكتف بالييتا بوصف الراهن، بل أدان الخطأ الفكري لليبيراليين الذين يعتقدون أن الفاشية كانت حادثة عابرة داخل الرأسمالية، وأن الليبرالية والفاشية لا يمكن أن يُنتج أحدهما الآخر، والحال أنّ ثمة رابطا جوهريا في أزمة الليبرالية الإيطالية والألمانية وظهور فرق التدخل squadre d’azione المعروفة بالسكوادرية وكانت تقمع الحركات الاجتماعية قبل الحرب العالمية الأولى، ثمّ تحولت إلى ذراع مسلحة للنظام الفاشي، وفرق الغيستابو النازية؛ غير أن الكاتب لا يستند إلى تحليل ماركسي أرثودوكسي يرى الفاشية أداة مخفيّة للبورجوازية، لأن في ذلك إنكارا للعوامل الأيديولوجية، بل يعترض على هذه القراءة التي لا تهتم إلا بالاستراتيجيات الاقتصادية، دون أن تضع في حسبانها ظهور المسألة العرقية. ما يمكن ملاحظته أن الكاتب، على أهمية جهده، لم يأت على ذكر المجموعات الراديكالية المحيطة بالتجمّع الوطني إلا عرَضا، وهي التي تحيي الإرث الفاشي بما تملكه من عناصر مدرّبة على حمل السلاح والقتال، على غرار أحزاب يمينية متطرفة أخرى في كثير من البلدان الأوربية مثل حزب إخوة إيطاليا، وحزب الحرية في النمسا، وفوكس في إسبانيا، والتي يسهل تحويلها إلى ميليشيات فاشية في حال وصولها إلى السلطة. كما غفل عن ذكر المواقع الاجتماعية التي تطفح بخطاب عنصري معاد لليهود والمسلمين والسّود، وهي مواقع يقف وراءها فرنسيون بيض يحرّضون على الكراهية ويصفون المواطنين من أصول عربية وأفريقية بـ”أبناء المهاجرين”، وهي صفة لا يطلقونها أبدا على مَن هم مِن سلالة المهاجرين الأوروبيين، وينعتون كل من يساند المسلمين باليساري الإسلاموي. أي أنهم يهيئون أنصارهم لعملية طرد واسعة تشمل المهاجرين غيرَ الأوروبيين وأبناءَهم. ولئن حاول الإشارة إلى أن ما تشهده الساحة السياسية الفرنسية من راديكالية يندرج ضمن حركة عامة تشمل المشهد الغربي برمّته، فإنه لم يوضح أن تركيز مارين لوبان على الإسلام في فرنسا ليس بمعزل عن دعوات مماثلة يقودها النمساوي يورغ هايدر، والإيطالي ماتيو سالفيني، والسويسري أوسكار فيرايسنغر، والمجري فكتور أوربان، والبولندي ياروسلاف كاجنسكي، والإسباني سنتياغو أباسكال، والهولندي بيم فورتاين قبل اغتياله عام 2002. وبعد أن حدّد الكاتب العناصر التي قد تؤدي إلى الفاشية، وأكد على أن العنصرية ومعادة الإسلام هما محركا صعودها، دعا إلى ضرورة تشكيل حركة جماهيرية تناهض الفاشية والعرقية نظريا وعمليا، وتسعى لتغيير الوضع. يقول أوغو بالييتا “إذا كانت الفاشية حركة فعلية تُرسّخ بقاءَ الرأسمالية تحت أشكال استبدادية وإرهابية، فلا يمكن التصدي لها، أي التخلص منها بحق، إلا بمواجهتها بحركة فعلية تلغي الوضع القائم”. أبو بكر العيادي كاتب تونسي
مشاركة :