أكدت حوادث الاعتداء على ناقلات النفط في بحر العرب وخليج عمان منذ منتصف عام 2019 وحتى الآن أن الملاحة البحرية في الخليج العربي قد أضحت في مرمى الخطر بما يؤكد الحاجة الماسة إلى مواجهة ذلك التهديد الذي تتجاوز تداعياته البعدين الأمني والاقتصادي إلى هدف تحويل مسار الصراعات نحو البحار -وقد أشرت إلى ذلك في مقالات عديدة سابقة- إلا أن الجديد في الحوادث الأخيرة هو توظيف التكنولوجيا الحديثة في تلك الصراعات بما يعني تحقيق خسائر محققة من ناحية وصعوبة إثبات مسؤولية الجريمة من ناحية ثانية بالنظر إلى صعوبة الجهة التي انطلقت منها الطائرات المسيرة. المواجهات في البحار ليست بالأمر الجديد، فعلى مر التاريخ كانت جزءًا من الصراعات حتى بين الدول الكبرى ذاتها ومنها الحروب الفرنسية - البريطانية 1689-1825 والتي اختبرت خلالها إمكانات الأساطيل البحرية على نطاق غير مسبوق، وكذلك الحرب الكورية 1950-1953 والتي تم خلالها حرمان الاتحاد السوفيتي من الوصول إلى البحار المفتوحة، وحديثاً الحرب العراقية - الإيرانية 1980-1988 حيث تشير التقديرات إلى أن الهجمات البحرية المتبادلة بين الجانبين بلغت 309 هجمات والتي كانت بداية التدخل الدولي في الحرب من خلال رفع الدول الخليجية أعلام بعض الدول الغربية طلباً للحماية، إلا أن الواقع الراهن من شأنه أن يجعل حوادث البحار أكثر خطورة لثلاثة أسباب الأول: الخلل في توازن القوى الإقليمي من ناحية واحتدام الصراعات الدولية من ناحية ثانية وخاصة بالقرب من الممرات المائية الدولية بما قد يتيح لبعض القوى إيجاد موطئ قدم ضمن تلك الصراعات ويظل وجود إجماع دولي بشأن مسؤولية حماية الملاحة البحرية الدولية أمراً بعيد المنال، والثاني: أن العديد من الممرات المائية الدولية تقع ضمن مناطق صراعات وأزمات مزمنة ومن ثم تسعى بعض الدول لتوظيف البحار في تلك الصراعات لسبب بسيط مؤداه أن خسائرها فادحة وكلفتها زهيدة، والثالث: عدم وجود سلطة دولية لإجبار الدول على الالتزام باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار1982 والتي تنظم الحقوق البحرية للدول، حيث يبقى لكل دولة تفسيراتها الخاصة بشأن نصوصها من خلال جدل قانوني محتدم على سبيل المثال حق المرور البريء أم العابر؟ فضلاً عن احتساب مساحة المياه الإقليمية يقدر باثني عشر ميلاً بحرياً إلا أن بعض الدول تحتسبها من بداية مناطق بحرية متنازع عليها لزيادة نطاق تلك المياه إلى أقصى حد ممكن. وسوف أجافي الحقيقة إذا قلت إن المجتمع الدولي قد وقف مكتوف الأيدي أمام تهديدات الملاحة البحرية لكن الملاحظ على الجهود الدولية أربع ملاحظات الأولى: أنها كانت استجابة وقتية ترتبط بكل حالة على حدة، ففي الحرب العراقية-الإيرانية أعلنت إدارة الرئيس ريجان آنذاك تأسيس ما أطلق عليه «تحالف الراغبين» لحماية الملاحة البحرية في الخليج العربي، وفي أعقاب الاعتداءات على ناقلات النفط في خليج عمان وبحر العرب عام 2019 أعلنت الولايات المتحدة تأسيس التحالف العسكري البحري لحماية الملاحة في الخليج، والذي انضمت إليه 6 دول، ثم إعلان فرنسا 2020 تأسيس البعثة الأوروبية لمراقبة الملاحة في مضيق هرمز بدعم ثماني دول أوروبية، ومع أهمية تلك الجهود فإنه لا يوجد إطار دولي يضم كل الدول التي تتهدد مصالحها جراء تهديد الملاحة البحرية ومنها الهند والصين والدول الأخرى ذات الصلة بتلك المنطقة، والثانية: ظهور الإدانة الأممية أحياناً وعدم وضوحها أحايين أخرى، ففي الحرب العراقية-الإيرانية صدر قرار مجلس الأمن رقم 522 في يونيو 1984 استجابة لشكوى قدمتها دول الخليج بسبب الاعتداءات على السفن التجارية من وإلى موانئ كل من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت، وأكد القرار حق حرية الملاحة في المياه الدولية والطرق البحرية من وإلى موانئ ومنشآت الدول الساحلية التي ليست طرفاً في الأعمال الحربية، أما في حالتي الاعتداء على ناقلات النفط في بحر العرب وخليج عمان عامي 2019 و2021 فقد عقد مجلس الأمن جلستين مغلقتين لمناقشة تلك الاعتداءات، وخلال الجلسة المخصصة لمناقشة حادث 2021 اعتمد مجلس الأمن بياناً رئاسياً وفق مقترح الهند يقر بأهمية زيادة التعاون الدولي والإقليمي لمواجهة تهديدات الأمن البحري بما في ذلك تبادل المعلومات، والثالثة: اكتفاء الدول الأخرى غير الغربية والتي لديها مصالح جوهرية في ضمان استمرار النقل البحري الذي يعد الوسيلة الرئيسية لمعظم وارداتها بما فيها النفطية إما بعدم إصدار موقف صريح أو إصدار تصريحات فضفاضة بشأن أهمية استمرار ضمان أمن الملاحة البحرية من دون وجود إجراءات على أرض الواقع لترجمة تلك المواقف إلى آليات عملية، والرابعة: غياب دور المنظمات الدولية المعنية بأمن الملاحة البحرية والتي تؤدي دوراً محورياً في هذا الشأن سواء من خلال مواقف تعكس خطورة تهديدات الأمن البحري أو بإصدار تقارير خاصة بشأن تلك الحوادث لتكون جرس إنذار بشأن المخاطر التي تتهدد الملاحة البحرية. بعض الدول أرسلت سفناً لحراسة ناقلاتها التجارية، والبعض سعت لتأسيس قواعد عسكرية بالقرب من الممرات المائية الحيوية، والبعض الثالث ينخرط بالفعل في مواجهة تهديدات الأمن البحري عموماً ضمن القوات الدولية تعمل ضمن الأسطول الخامس الأمريكي. ومع أهمية ما سبق، لا تزال هناك حاجة إلى ثلاث آليات دولية للحفاظ على أمن الملاحة البحرية الأولى: آلية قانونية وتتمثل في عقد قمة أممية لمناقشة القواعد القانونية الدولية المنظمة للملاحة الدولية وما بها من ثغرات وعما إذا كان الأمر يتطلب إصدار ميثاق جديد أو اتفاقية جديدة، فعلى سبيل المثال عندما وجد المجتمع الدولي أن بعض أعمال العنف البحري لم تنص عليها اتفاقية قانون البحار لعام 1982 فقد توافقت دول العالم على إصدار اتفاقية قمع الأعمال غير المشروعة عام 2005 ودخلت حيز التنفيذ عام 2010، والثانية: آلية أمنية وتتمثل في بحث المقترح الذي أثير في نهاية عام 2020 من أن هناك مساعي من جانب الولايات المتحدة لتشكيل قوة متعددة الجنسيات للتدخل السريع في المنطقة ومن بين أهدافها مواجهة التصرفات العدائية في البحر، ولا شك أن حال اتفاق العديد من القوى الكبرى في العالم حول تلك الصيغة ستكون أداة فاعلة ويكون بإمكانها تحقيق الردع البحري في ظل عدم وجود قوة عسكرية تحت تصرف المنظمة الأممية لهذا الغرض، والثالثة: آلية سياسية وتتمثل في أهمية حشد الجهود الدبلوماسية لإثارة الاهتمام بضرورة الحفاظ على أمن الملاحة البحرية من خلال أروقة منظمة الأمم المتحدة ضمن اجتماع الجمعية العامة السنوي والذي يعد فرصة سانحة في هذا الشأن. } مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :