الثقة والشك لدى الإنسان مفارقة عجيبة، يركب الناس الطائرات ويضعون حياتهم وحياة أطفالهم رهناً لطيار لا يعرفونه، ولا يعلمون شيئاً عن حالته النفسية وصحته البدنية، هم يثقون أن شركة الطيران لا يمكن أن توظف طياراً إلا بمواصفات عالية من التأهيل، لكن التفاصيل لا يفكرون بها كثيراً. يسلم المريض جسده للجراح فقط لأنه يلبس الروب الأبيض من دون أن يعرف شيئاً عن تعليمه، يركب الشخص مع سائق "تاكسي" ولا يعلم عن مهارته في القيادة، ممارسات يومية نفعلها تقوم على التعامل بثقة عمياء من دون الخوض في التفاصيل، ومن دون هذه الثقة تتعطل الحياة. في المقابل من الممكن جداً إثارة الشك لدى الإنسان بكل سهولة، مجرد عبارة يسمعها من راكب، أو من مريض سابق كفيلة بأن تغير خططه بشكل كامل، مرة أخرى، ثقة مطلقة في عبارة قالها شخص مجهول تؤدي إلى الشك واتخاذ قرارات حاسمة. مسألة الشك والثقة تتجلى بشكل كبير في الأحداث التي تمس شرائح كبرى من المجتمع، تتحول حينها إلى نظرية مؤامرة تُـتهم بتنظيمها غالباً الحكومات ضد شعوبها، ولا أعتقد أن أحداً منا لم يسمع أن وباء كورونا واللقاحات هي مؤامرة عالمية كبرى، يتنوع تفسيرها ابتداء من أقصى درجات التطرف وهي إنكار وجود الوباء أصلاً، وانتهاء برفض اللقاحات لكونها تعبث بالجينات على المدى البعيد. الغريب أن عدداً كبيراً من البشر، بمختلف مؤهلاتهم العلمية والثقافية، يعتقد أن الوباء هو مؤامرة اتفقت عليها حكومات العالم لأغراض اقتصادية أو سياسية، في أوج الموجة الأولى التي ضربت الولايات المتحدة والتي أدت إلى إصابة مئات الآلاف، كان البعض يمر على المستشفيات الميدانية ويوثق بالفيديو كذب الحكومة وأن تلك المستشفيات خالية من المرضى. وبطبيعة الحال، لا يفكر هؤلاء في انعدام منطق أن تتفق حكومات العالم على التآمر وشل الاقتصاد العالمي وقطع الشرايين الحيوية له كالسياحة وغيرها، فالعقل الجمعي ساذج تسهل السيطرة عليه ببضع فرضيات ومقالات وصور وفيديوات. مؤرخو الشؤون الصحية يؤكدون أن نظرية المؤامرة ضد الأوبئة واللقاحات قديمة بقدم الأوبئة نفسها، والتاريخ البشري يؤكد أن كل وباء يندلع تنطلق معه بالتوازي نظرية مؤامرة، وفي النهاية ينتصر العلم والعلماء وتنقذ ملايين الأرواح، ولو رضخ العالم لنظريات المؤامرة لما تمكن العلماء من القضاء على شلل الأطفال، والجدري والحصبة وغيرها من الأمراض الخطيرة. مشكلة مشعلي نظرية المؤامرة ومؤيديها أن ضررهم متعدٍ وخطير جداً، فالتشكيك في اللقاحات يؤدي إلى عودتها بشكل أكثر ضراوة، وذلك بحسب مؤلف كتاب "حرب اللقاحات" باتريك زيلبرمان، الذي نشرت تقريراً عنه "روسيا اليوم"، أشارت فيه إلى "دراسة نشرت عام 1998، في مجلة "ذي لانست" الطبية العريقة تحدثت عن وجود رابط بين اللقاح المضاد للحصبة والنكاف والحميراء، وبين مرض التوحّد، لكن تبين في نهاية المطاف أن الدراسة "ملفقة" من صاحبها أندرو ويكفيلد، ولم يفلح لا البيان الرسمي الذي أصدرته المجلة ولا الأعمال الكثيرة اللاحقة التي أثبتت عدم وجود رابط من هذا القبيل في دحض هذه النتائج وتبديد المخاوف". التاريخ يؤكد انتصار العلم في نهاية المطاف على مؤيدي نظرية المؤامرة، لكن يجب ألا ننسى أن هذا هو أول وباء عالمي يحدث بعد الثورة الاتصالية والتكنولوجية، والتي قد يكون لها تأثير كبير على الرأي العام وبالتالي على فعالية المناعة الجماعية.
مشاركة :