لفتت انتباهي كثيراً واستغربت من الكلمة التي ألقاها الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض في 12 أغسطس من العام الجاري وهو يحث الكونجرس على مواجهة ومناقشة قضية الارتفاع المفرط في أسعار الأدوية والعقاقير في بلاده، كما دعاهم إلى اتخاذ الإجراءات والتدابير المناسبة للقضاء على هذه الظاهرة التي تنفرد بها الولايات المتحدة مقارنة بالدول المتقدمة والصناعية الأخرى. كذلك وفي الوقت نفسه وجه اللوم والعتاب إلى عمالقة شركات الأدوية في هذه الزيادة غير المنطقية وغير المعقولة لأسعار الأدوية والتي لا تتناسب مع معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية. وقال بايدن: «لسنوات وأسعار الكثير من الأدوية تجاوزت معدلات التضخم، وهذه الأسعار أثرت على الكثير من العوائل»، وأضاف قائلاً: «كُلنا، مهما كانت خلفياتنا، أو أعمارنا وأينما نعيش، نتوافق على أن أسعار الأدوية مرتفعة جداً بدرجة مفرطة... ونحن في أمريكا ندفع أغلى الأسعار للأدوية من أية أمة متقدمة في العالم، نحو مرتين إلى ثلاث مرات أعلى من الدول الأخرى». فهذه المعاناة التي أفصح عنها الرئيس بايدن للشعب الأمريكي، هي في الحقيقة معاناة دولية، وظاهرة عالمية تشترك فيها كل دول العالم بدون استثناء، والمتمثلة في الأسعار الخيالية للأدوية والعقاقير واللقاحات الواقية من الأمراض. وهذه المشكلة العصيبة التي تحدث عنها بايدن بكل وضوح هي ليست وليدة اليوم، وليست حديث الساعة، وليست قضية برزت فقط في عهد بايدن، وإنما أستطيع أن أقول بأنها مشكلة أزلية متجذرة في أعماق كل دول العالم، سواء أكانت دولا متقدمة وصناعية تنتج الدواء بنفسها، أو دولا نامية فقيرة تستهلك وتستورد الدواء، فالجميع سواسية أمام هذه القضية، وربما طبعاً الحال أسوأ بالنسبة للدول الفقيرة التي معظم شعوبها لا تستطيع تحمل هذا العبء الثقيل لأسعار الأدوية، وليس لها القدرة المالية على شرائها، سواء حكومات هذه الدول أو شعوبها. فالحكومات المتعاقبة للولايات المتحدة الأمريكية، سواء في عهد بايدن، أو الرئيس السابق ترامب أو أوباما، فكلهم كانوا سواسية أمام هذه القضية الشائكة، ولم تتمكن كل هذه الحكومات من استئصال هذه المشكلة والقضاء عليها والوصول إلى حلٍ ودي متوازن ومُرض لجميع الأطراف، سواء أكان الطرف الحكومي أو الشركات الكبيرة المنتجة للعقاقير واللقاحات ضد الأمراض. وفي تقديري فإنني أُرجع سبب فشل الحكومات في خفض أسعار الأدوية وجعلها في متناول الجميع إلى عدة أسباب. أما السبب الأول فإن هذه الشركات تتمتع بنفوذٍ قوي جداً، ولها سلطة اقتصادية وسياسية واسعة جداً في مواقع اتخاذ القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، مما يجعلها تمتلك مفتاح الحل بيدها، ولا تستطيع الحكومات بشكلٍ عام ممارسة ضغوط شديدة عليها. وأما العامل والسبب الثاني فيكمن في وجود جنودٍ ممثلين لهذه الشركات بصفةٍ غير مباشرة في الكونجرس، سواء في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب، فهؤلاء الجنود يدافعون عن المصالح العليا لهذه الشركات، ويمنعون تمرير أي تشريع يضر بمصالحهم، أو أن يخفض من نسبة أرباحهم، فهؤلاء الجنود لم يصلوا إلى الكونجرس إلا من أموال هذه الشركات ولذلك يجب أن يدفعوا ثمن ذلك الدعم بمواقف سياسية وتشريعية تصب في مصلحة هذه الشركات وليست مصلحة الشعب الأمريكي عامة. والعامل الثالث فهو أن هذه الشركات العظمى دائماً تُقدم حججاً ومبررات واهية تستغلها لمصالحها ومن أجل جني المزيد من الأرباح، فهي تؤكد في جميع المناسبات بأنها تستثمر وتنفق الملايين في البحث العلمي وفي تطوير الأدوية واللقاحات الجديدة، ولذلك طبيعياً فإن أسعار منتجاتهم تكون غالية ومرتفعة الثمن. وهذا المبرر صحيح إلى درجة معينة، ولكن الأسعار التي توضع على الأدوية لا تتناسب مع حجم الإنفاق على البحث والتطوير، إضافة إلى أن الأسعار عادة ما ترتفع بين عشية أو ضحاها وبدون سبب منطقي مقبول. فعلى سبيل المثال، نشرت رويترز تقريراً في الخامس من يناير من العام الجاري تحت عنوان: «صُناع الأدوية يبدؤون عام 2021 برفع أسعار 500 دواء في أمريكا»، واستنتاجات هذا التقرير مستخلصة من دراسة أجرتها شركة (46brooklyn)، حيث أكدت على زيادة شركات الأدوية المعروفة مثل فايزر التي ربحت المليارات من بيع اللقاح ضد فيروس كورونا لأسعار الدواء بدءاً من العام الجاري بحجة التأثيرات الاقتصادية لكورونا على أرباحهم. كما أكد الرئيس بايدن في كلمته على نقطة مهمة جداً ترد على هذه الادعاءات وهي أن الأرباح التي تجنيها هذه الشركات لا تذهب كلها إلى الصرف على البحث والتطوير وإنما تدخل في جيوب المسؤولين فتجعلهم أكثر ثراءً، وتزيد من غناهم الفاحش. وفي هذا الخصوص يكفي أن أنقل لكم آخر خبر منشور في 13 أغسطس من العام الجاري في مجلة «فوربس الشرق الأوسط» تحت عنوان: «عقود فايزر - بيونتيك وموديرنا من اللقاحات تفوق 60 مليار دولار حتى الآن»، حيث أكد الخبر بأن تعاقدات هذه الشركات فاقت مجتمعة 60 مليار دولار لجرعات ستسلمها على مدار عامي 2021 و2022 فقط، كما جاء في الخبر أن إيرادات فايزر ستزيد عن 6,6 مليارات دولار، بينما ستحقق شركة موديرنا نحو 7,6 مليارات دولار خلال عام 2023. ومن أجل مقاومة هذه الشركات الجشعة للأدوية فقد اتخذ بايدن عدة إجراءات تهدف إلى خفض هذه الأسعار وعدم تحميل الشعب الأمريكي عبء أسعار الأدوية النارية. ومن هذه الإجراءات والتي قد تجدونها غريبة على أقوى وأغنى دولة في العالم وهي شراء الأدوية من كندا الأرخص سعراً، حيث وقع بايدن أمراً تنفيذياً في التاسع من يوليو من العام الجاري تحت عنوان: «تعزيز التنافسية في الاقتصاد الأمريكي»، والهدف هو زيادة روح التنافس بين الشركات من أجل خفض الأسعار، إضافة إلى مواجهة الشركات الكبرى المحتكرة والتي تتمتع بنفوذ قوي، ومنها في مجال الأدوية. وهذا الأمر التنفيذي يتكون من 72 مبادرة لمواجهة مشكلات التنافس في الاقتصاد الأمريكي، ومن هذه المبادرات «خفض أسعار الأدوية من خلال دعم الولايات والبرامج التي تعمل على استيراد أدوية آمنة وأرخص من كندا». وعلاوة على ذلك فمن ضمن ميزانية بايدن التي تبلغ 3,2 تريليونات دولار هو برنامج العناية الصحية، أو التأمين الصحي، وفي هذا البرنامج توجيه الجهات المعنية الى التفاوض مع شركات الأدوية للوصول إلى أنسب الأسعار للأدوية والتي تحقق المصلحة العامة. فمن الواضح إذن أن هذه الشركات العملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، مثل شركات الأدوية وغيرها, هي التي تسيطر بطريقة مباشرة وغير مباشرة على القرار الحكومي الأمريكي، ولها نفوذ عميق وقوي في السياسة والتشريع الأمريكي ربما يفوق نفوذ الرئيس الأمريكي نفسه. فإذا كانت هذه هي حالة أمريكا التي تعمل بداخلها هذه الشركات، فكيف سيكون حالنا نحن معهم؟ وهل لنا أي سلطة عليهم؟ سواء أكانت شركات الأدوية، أو الاتصالات والإنترنت، أو التبغ والسجائر؟ bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :