كيف يبني الإعلام عقلك الواعي واللاواعي

  • 8/19/2021
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

كيف يبني الإعلام عقلك الواعي واللاواعي سلوك الأفراد الشخصي والاجتماعي يمكن أن يتحدد -وبشكل جزئي- من خلال التفسيرات التي تقدمها وسائل الإعلام للأحداث الجارية والقضايا التي لا توجد لديهم مصادر معلومات بديلة عنها. صور يختزنها العقل بلا وعي أدركُ أن من يحضر معي الآن وأنا أكتب هذا المقال هو “عقلي الواعي” الذي يعي ما يحصل حولي من صور وأصوات وألوان، ينبهني عن طريق الحواس إلى أن كوب القهوة قبالتي أخذ يبرد، ولون السجاد أصبح باهتاً، وصوت التلفزيون مرتفع قليلاً ينقل ما يحصل من أحداث في أفغانستان! ولأنني منشغلة عن ملاحقة ما يعرضه التلفزيون بالكتابة ركنَ عقلي الواعي لرديفهِ الباطن ليزوده بالصور المدفونة في أعماق الذاكرة عن أفغانستان، وكل ما تكون لدي من أحكام ٍ جاهزة طوال سنوات حياتي. عادت بي الذاكرة إلى أواخر السبعينات عندما دخل الاتحاد السوفييتي إلى أفغانستان، ومن ثم طارت بي إلى بداية القرن الحادي والعشرين باحتلال الولايات المتحدة لهذا البلد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر للقضاء على أسامة بن لادن! صورٌ وصور كأمواج متلاطمة بين ضفتي عقلي الواعي واللاوعي اللذين خزنا كل تلك الأحداث التاريخية والمشاعر المرتبطة بها وحتماً بكل الأحكام والاستنتاجات! مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد لخص العلاقة بين العقلين الواعي واللاواعي في صورة تخيلية تفيد بأن “العقل الواعي هو ذلك الجزء الصغير من القمة الجليدية التي تظهر فوق المحيط. أما ذلك اللاواعي فهو الجبل الهائل الذي ينتهي بتلك القمة ولا نراه غالباً”. لأ أريد أن أخوض كثيراً في تلك التفسيرات لجوهر آلية العقل الواعي واللاواعي وما دور كل واحد منهما وكيف يعملان بالتضافر تارة وبالتنافر تارة أخرى، وما وظائف كل واحد منهما، ولكن الذي يعنيني حقاً هو ذلك الجزء المخفي من الجبل الجليدي الذي يتحكم في أحكامنا ومشاعرنا ونظرتنا للواقع بجميع تفاصيله بل إلى ما وراء ذلك الواقع أيضاً، فمثلما يذهب الجدل الفلسفي إلى أنه لا يمكن أن نرى شخصاً في المنام ما لم نكن قد رأيناه في الحقيقة، أجد أن هذا التصور يتعدى ما هو أبعد من ذلك عندما يقوم العقل الواعي بتخيل واقع لم يعشه من قبل! بينما هناك سؤال قد يدفعنا إلى مناهضة الفكرة السابقة، فأحياناً قد يرى الناس صوراً لرموزهم التاريخية والدينية التي عاشت منذ قرون طويلة، يستحضرون صورهم في المنام وفي الواقع ويعيشون ملاحم بطولاتهم وكأنها حقيقة ظاهرة للعيان، بعضهم يقسم أنه رأى السيدة مريم في منامه، وآخر رأى سيدنا حمزة بن عبدالمطلب كما تجسد بصورة الممثل المصري عبدالله غيث في الفيلم التاريخي “الرسالة”، وبالتأكيد رموز دينية أخرى. الإعلام وغرس المدرك التصوري على أنه حقيقة كان لإشكالية تصور الواقع من خلال ما رسبته وسائل الإعلام البريطانية على سبيل المثال مدلول واضح عند اكتشاف مرض “جنون البقر” هناك عام 1990، حيث أصيب الناس بالهلع والذعر نتيجة تفشي المرض الذي رافقه نقص المعلومات الدقيقة المتصلة به، مما أدى إلى تفاقم الأزمة. ولم تذكر وسائل الإعلام حينها حقيقة أن الأبقار التي تصاب بهذا المرض “مجنونة” بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما أدى تداول وسائل الإعلام لكلمة “الأبقار” وكلمة “الجنون” إلى جعل الناس يعتقدون أنهم سيصابون بالجنون، ولم يدرك الناس تلك الحقائق إلاّ في عام 1996، حين ظهرت الموجة الثانية من هذا المرض في وقت استغرب فيه الكثيرون من أن يخلق هكذا تصور في مجتمع متطور كالمجتمع البريطاني. لكن هذا التصور الذي نعيشه اليوم عن جائحة كورونا -وما رافقها من معتقدات وتأويلات وتفسيرات- خلق نوعا من الهلع رافق عملية أخذ اللقاحات من عدمه نتيجة ما تداولته وسائل التواصل الاجتماعي وإشاعة جو من الخرافة والتصورات الخاطئة بسبب غياب المعلومات العلمية الدقيقة واستخدام الجائحة في الخطابات السياسية التنافسية. وخلصت الدراسات الإعلامية إلى أن المتلقي يتعامل مع الواقع من خلال ما يسمى “المدرك التصوري” الذي زرعته وسائل الإعلام التي تمارس دوراً مهماً في تقديم تفسيرات لما يجري في الواقع من خلال الكلمة والصورة والحركة واللون، ومن ثم فإن سلوك الأفراد الشخصي والاجتماعي يمكن أن يتحدد -وبشكل جزئي- من خلال التفسيرات التي تقدمها وسائل الإعلام للأحداث الجارية والقضايا التي لا توجد لديهم مصادر معلومات بديلة عنها حيث ينشئ الأفراد معاني مشتركة للواقع المادي والاجتماعي من خلال ما يقرأونه أو يسمعونه أو يشاهدونه. وغالباً ما ينظر الناس إلى وسائل الإعلام على أنها أدوات تعكس العالم المحيط بهم، حيث تستخدم المادة الإخبارية في مراقبة البيئة والحصول على المعلومات عنها، كما تعكس الدراما قيم المجتمع وعاداته وتقاليده وأنماط السلوك فيه، وتعد وسائل الإعلام وفق هذا المفهوم بمثابة النافذة التي من خلالها يطل الشخص على العالم الخارجي. ويجد الفقه الإعلامي أن عملية تلقي جمهور وسائل الإعلام للرسائل الإعلامية من صور ونصوص تتم من خلال معايشة ثلاثة عوالم أو مستويات: يتمثل المستوى الأول في مرحلة التعرض، وهي انتقائية فردية لما يعرض من أفكار وصور ومشاهدات، يتشارك المتلقي مع الوسيلة الإعلامية في الرموز الملموسة منها والتي تجسدها الأجهزة السمعية مثل الراديو والبصرية كالصحيفة الورقية، والسمعية – البصرية كالتلفزيون مقترنة بالألوان والأصوات والصور. وهنا يقوم المتلقي بدور المراقب، حيث يقارن بين كل ما يتلقاه في العالم الرمزي (وسائل الإعلام) وكل ما هو موجود في عالمه المادي الواقعي والحقيقي، مع تأكيد أن وسائل الإعلام كعالم رمزي هي أصلاً انعكاس للعالم الحقيقي المادي؛ فهي تقوم بدور المراقب لما يحصل في البيئة المحيطة وفي العالم كذلك يعمل المتلقي على استقبال الرسائل الإعلامية من خلال إدراكه ومراقبته لبيئته. ويتمثل المستوى الثاني في طريقة التلقي، حيث يقوم المتلقي بإعمال العقل من خلال نوع من التفاعل بينه وبين ما يسمح به عقله الواعي من إدراك للرسائل الإعلامية التي تلقاها من تلك الوسائل، وتركيز انتباهه على ما يستقبله عن طريق فهمه وإدراكه لسلوك الشخصيات وإيماءاتها وتفسير مختلف الرموز التي تقدمها الرسالة الإعلامية، إذ يقوم بإصدار رد فعل كالضحك مثلاً أو الخوف أو التفاجؤ أو التذمر أو القبول أو الرفض. ويتمثل المستوى الثالث في مرحلة الحكم، حيث يقوم المتلقي في هذا المستوى بمقارنة ما تمّت مشاهدته في المستويين السابقين، ويعمل على التقييم والنقد لكل ما تم استقباله، وبعبارة أخرى تصنيف وحفظ ما تمّت مشاهدته من رسائل إعلامية. كل ذلك يتم في عقل المتلقي خلال لحظات التلقي الممزوجة مع خبرته الشخصية ومدركاته الحسية. من يبني مخيلتنا ومدركاتنا التصورية للواقع؟ تعمل المستويات الثلاثة أعلاه -خصوصاً المستوى الثالث المتمثل في مرحلة الحكم- على تشكيل فهمنا وإدراكنا للواقع من حولنا وتكوين تفسيرات تصورية عن الآخر أياً كان، حيث تعمل وسائل الإعلام على ترسيخ قناعاتنا عبر تقديمها الحجج والدلالات التي نستخدمها وكأنها خاصّتنا، في الوقت الذي لا ندعي فيه أن وسائل الإعلام هي بوابتنا الوحيدة لفهم الواقع، فهناك عوامل كثيرة كالأسرة والدين والمدرسة والأصدقاء والتجربة الشخصية والسفر وغيرها من الانتماءات والتجارب المشتركة التي تحدد هويتنا وملامح شخصيتنا وطريقة تعاطينا مع المحيط وأشخاصه وأحداثه، مثلما تتداخل عوامل أخرى في فهمنا للرموز التي نتلقاها من وسائل الإعلام مثل نوعية الموضوع المطروح عبر هذه الوسائل وحجم المعرفة التي نكتسبها بغرض المقارنة بين الواقعي والمتخيل، وكذلك اهتمام المتلقي ودوافعه لفهم النص الذي يساعده على أن يقيّم ويحكم على ما تمّ انتقاؤه من رسائل. وعندما يقوم المتلقي بوصف وتحويل كل ما تمّ استقباله في إدراكه إلى أشكال وصور، فإنه بالتّالي يؤسس لبناء مساحة رمزية تُخزَن في عقله الباطن وتضم مختلف الدلالات التي تعمق قناعات جديدة أو تصحح قناعات قديمة قد مرّ بها، فالمشاعر المختلفة مثل الفرح والحزن والحماس والتعاطف والرفض والقبول وغيرها من المشاعر والأحكام، كلها تتداخل مع تجربة وخبرة المتلقي السابقة، وهذه طبيعة بشرية نشترك فيها جميعاً. هل ما نسقطه على الواقع من أحكام صحيح؟ يبدأ الصراع الحقيقي عندما تبدأ الأسئلة الفارقة: هل ما نسقطه على الواقع الذي نعيشه صحيح؟ هل أحكامنا موضوعية أم ذاتية؟ هل نحن واقعيون أم منغمسون في الخيال؟ هل الآخر على حق ونحن على خطأ، أم العكس؟ هل ما زُرعَ فينا ونزرعه بدورنا من قناعات بحاجة إلى إعادة النظر؟ أين نحنُ من الحقيقة؟ والأهم من الأصدق عقلنا الواعي أم نظيره اللاواعي؟ هذه الأسئلة وسواها تستدعي الإجابة عنها مراجعة متعمقة للذات وسبر أغوار عقلنا الباطن وآليات تشكله، حتى نوضح الصور الضبابية ونصحح الأحكام الخاطئة ونعيد ترميم بيتنا القديم ونتخلص مما علقَ به من نفايات عاطفية وذهنية، بل قد يحتاج الأمر إلى أن تتخذ بيتاً جديداً مبنيا على أسس صحيحة ونهج حياتي مختلف. د. سامية هاشم أستاذة الإعلام في الجامعة الأميركية في الإمارات

مشاركة :