عُرض على منصة نتفليكس مؤخرا فيلم (حد الطار) للمخرج عبد العزيز الشلاحي ومن تأليف مفرج المجفل. يطرق الفيلم المقتبس عن قصة واقعية كما أشار المخرج ذاته في إحدى الندوات (إندبندانت العربية، 2020) حالة ثقافية بامتياز، ملقيا الضوء على بقعة زمنية محددة من الحياة الاجتماعية في السعودية. يمثل هذا الفيلم ذو الطابع الدرامي تجربة فنية مميزة في سياق الأفلام المحلية. فهي تجربة دون أدنى شك تستأهل الإشادة، رغم تشبعها بالثنائيات المتضادة على مختلف مستويات العمل. يصور الفيلم الحائز على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 42، وجائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان أفلام السعودية في نسخته السابعة، الدمام 2021 من بين عدة جوائز أخرى، يصور قصة حب في إحدى حواري الرياض بين بنت مطربة أفراح شعبية (طقاقة) شامة (أضوى فهد)، وابن سياف، دايل (فيصل الدوخي والذي حصد جائزة أفضل أداء تمثيلي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن دوره هذا). ومرورا بسلسلة من العقد والتناقضات والمفارقات الخارجية المتمثلة في الثقافة الاجتماعية، ونظيرتها الداخلية المتمثلة في ذوات الشخصيات، يختتم الفيلم أحداثه، واضعا حدا لقصة الحب بينهما ومصورا الفراق والأسى في أبهى حالاته الواقعية التقليدية. إذ يحدق دايل الذي ساهم في دفع الدية المقررة لعتق رقبة سرور (شبيب إبراهيم) ابن خال شامة ومنافسه في حبها، من سيارته في مظاهر الفرح لعقد قران شامة من سرور ومشاعر الألم والبين تتوسد قسمات وجهه. ليقود بعدها سيارته، ومن خلفه سيارة أخرى تتبعه محملة بعفشه على الأرحج، في إشارة لانسحابه من تلك العلاقة، وربما من الحارة كلها. في حين، تقرأ شامة رسالته الأخيرة التي يعبر فيها صراحة عن تصوره عن الحب وإيمانه الراسخ بسعادتها مع من تحب، على حد تعبيره (إذا ما قدرت تعيش مع اللي تحبه. على الأقل تخليه هو يعيش مع اللي يحب). كما يتقاطع الخيار الذي ألفه دايل في النهاية وخيار حب بخيت (هاشم هوساوي) لأم شامة بدرية (راوية أحمد) وتعلقه بها رغم رفضها إياه مرارا. إذ يستحق أن يتم تسليط الضوء وقراءة العلاقة بين حب دايل لشامة بإزاء حب بخيت لبدرية. فتعاطف بخيت واهتمامه المتمظهر في مساهمته في دفع مبلغ قد يساعد إما في إنقاذ سرور من حد السيف أو رد الدين الذي تورطت فيه بدرية لإخراجها من السجن يمكن أن ينظر إليه على أنه العامل الذي يمهد لقرار دايل، والخيط الذي قد يفضي بنا إلى تفهم قراره وتقبله في الوقت نفسه. كما يمكن أن نعد ما تمخض عنه حب بخيت لبدرية كتطبيق لرؤية دايل في عالم الفيلم المتخيل حول انتفاء إمكانية التقاء خياري الحب والزواج، ملغيا بذلك أية خيارات بينهما. يجسد هذا المشهد الأخير في الفيلم دلالات التضحية، والتأكيد على عدم الجمع بين التضاد (السيف والطار) من جهة. كما يجسد ربما من جهة أخرى دلالات الرضوخ للنظم الثقافية المرة والسلطة الاجتماعية التي تأطر قصة الحب هذه. تمثل الثنائيات المتضادة الوعاء الرئيس الذي يحتضن أحداث الفيلم (يمكن أن نستشف مثل هذه العلاقات الثنائية المتضادة في أفلام سعودية أخرى، كفيلم (عايش) 2010). يطرح الفلم مستويين أساسيين من العلاقات الثنائية المتضادة. يُعنى المستوى الأول بالطبقية أو السمو العائلي، إن صح التعبير. فالشخصيتان الرئيستان من بيئتين متفاوتتين من زاوية الرؤية الاجتماعية. تنتمي شخصية شامة إلى عائلة منبوذة، ذات منزلة أدنى من عائلة دايل ذات المكانة الأرقى ضمنا. والسبب ببساطة يعود إلى كون أمها تمتهن (الطق) في الأفراح. يكون هذا المستوى بمثابة الخلفية الثقافية الذي تنشأ فيه قصة الحب. كما يركن أيضا إلى تراكمات الذاكرة عند المتلقي إثر تقاطعه وكم هائل من القصص والحكايات التي تقبض على هذا السياق الاجتماعي المتباين وتتعمق فيه. وهذا من شأنه أن يصبغ الفيلم بسمة كونية وأخرى تقليدية استهلاكية في ذات الآن. أما المستوى الآخر، فيتمثل في حضور دلالة الفرح والموسيقى والحياة من جانب، ودلالة القسوة والموت والقتل من جانب آخر. تكمن الدلالة الأولى بصورة جلية في خيار شامة أن تعزف على الأورغ في عرس الشيوخ. الأمر الذي سيوفر لعائلتها مبلغ الدية. في حين، تتبلور الدلالة الأخرى بوضوح في خيار دايل في السير على خطى أبيه بتأثير من عمه ليكون سيافا. ويستنكر كلاهما على الآخر اختياره النقيض. ويتنامى حضور هاذين المعنيين المتقابلين ليبلغ أوجه في مشهدي تدرب شامة على الأورغ، ومشهد تدرب دايل على قطع الحبال باستخدام السيف. كما يصور الفيلم أيضا التناقضات والارتباكات والصراعات التي تنشأ على وجه الخصوص في دواخل شامة ودايل ويبرزها بصورة متوازية. فمن جهة، نجد أن شخصية شامة مترددة ومشوشة في حسم قرارها تجاه دايل بإزاء حبها لابن خالها. فبينما تعلن له عن حبها له وتدعوه لنبذ غيرته من سرور، يأتي مشهد عطر سرور، وكذلك لاحقا استحضار طيفها وسرور عند قفص الحمام ليشي بعكس ذلك. وتبدو التناقضات والصراعات الداخلية أشد وضوحا وتعقيدا في شخصية دايل. تحتدم هذه الصراعات المتمثلة في انحيازه للتمسك بشامة والرغبة في تحقيق سعادتها أو في خيار التخلي عنها لتعيش ألم الفقد أكثر في داخله قبيل تنفيذه حكم القصاص بحق سرور. ويعمد الفيلم كذلك لتوظيف اللقطات المقربة بنسق متكرر، مركزا إطار الصورة على ملامح وجوه الشخصيات الرئيسة؛ في خطوة تجعل المشاهد مع تماس بصري والتناقضات والصراعات الذهنية التي تحياها هذه الشخصيات. وتجدر الإشارة هنا بأن ثمة بعض اللقطات المقربة التي تشذ عن ذلك، مثل تركيزه على ملامح (الطقاقة) في عرس الشيوخ، حيث لا تفصح هذه اللقطة عن أية صراعات داخلية. ومن جانب آخر، أهتم الفيلم بعرض بعض التفاصيل المهمة من الحقبة الزمنية التي تتموضع فيها أحداث الفيلم. ففي لفتة واعية، نجد على سبيل المثال أن الفيلم تضمن موسيقى أغنية My Little Lady ، 1968 والتي كانت تستعمل وقتذاك كتتر لمباريات الدوري السعودي. كما أمتد هذا الاهتمام ليشمل جزءا من تفاصيل المكان: الحارة والبيت ورسم سماتهما. لكن على الرغم من ذلك، وعلى الرغم أيضا من وجود بعض اللقطات التأسيسية الفاتنة في الفيلم، إلا أن حضور تفاصيل المكان بدا لي باهتا بعض الشيء. بمعنى لم يكن حضور المكان كما يبدو لي رادفا حقيقيا لإثراء التجربة البصرية لدى المشاهد، ومن ثم توطينه عميقا في تلك الفترة من خلال مثلا إبراز التفاصيل الدقيقة للسطح أو التفاصيل الداخلية للبيت، أو حتى خلق حالة حميمية، حالة بصرية شعرية للحارة من شأنها أن تساعد على تجذر المشهد في الذاكرة.
مشاركة :