"الغناء الأخضر" ملاحم منسية تتغنى بأحلام النساء التونسيات ومغامراتهن

  • 8/21/2021
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تُخفي مرددات النساء وخاصة اللواتي يعشن في مناطق ريفية حكايات أجيال بأكملها وتفاصيل مجتمع بُني على جملة من القيم والعادات والتقاليد، لكنها تؤسس أيضا لأجيال مختلفة تحمل في ميزاتها أحلاما وأمنيات منشودة حلمت الجدات والأمهات بتحقيقها. يُقال إن لكل امرئ من إرثه نصيبا، وربما تساعدنا الظروف في أن نكون أبناء مناطق ثرية فنيا تخلق فينا فخرا ورغبة في البحث عن كنوز تاريخية دفينة، وأحيانا ما إن يتبع الفرد ركب البحث العلمي حتى يسعى لتطويع تخصصه العلمي لدراسة موروثه الثقافي والاجتماعي. هذا ما حصل مع الصحافية التونسية سلمى الجلاصي التي اختارت أن تعود إلى مسقط رأسها لتستمد منه محتوى بحثها الأكاديمي حول الموسيقى الشعبية وتحديدا “أغاني التونسيات من خلال مرددات نساء بلدة الكنائس” كما اختارت أن تعنونه. نبش في الذاكرة رغم أن أغاني النساء جزء لا يتجزأ من سجل الأغاني التونسية، إلا أنها لم تعد أحد أنماط الفن الشعبي غير المدون الذي لم يحظ بالتوثيق والأرشفة والبحث فتلاشى منه الكثير. الدراسة تتناول أغاني النساء بمختلف أنواعها معيدة الاعتبار إلى تراث ثقافي وفني مغيب بحكم العادات والتقاليد وسلمى الجلاصي هي ثاني مؤلف تونسي يختص في البحث في أغاني النساء، ما يكشف أن الموروث اللامادي للقصائد الشعبية المغناة وخاصة منها مرددات النسوة لا يخضع للحفظ والأرشفة كما يجب، فالباحثون الجامعيون في تونس كانوا لعقود متوالية في قطيعة فرضتها ذواتهم المتعالية عن البحث في اللهجة العامية، فسجنوا أنفسهم في قوالب بحثية جاهزة تبحث في الموروث العربي الفصيح أو حتى في فنون الطبقات الأرستقراطية والبرجوازية كأغاني المالوف والأشعار العمودية. وفي بحثها عن مرددات بلدة الكنائس، تمكنت الباحثة التونسية من خلال عمل ميداني دام أكثر من عشرة أشهر، من جمع ما يزيد عن المئة وعشرين أغنية في أغراض ومناسبات مختلفة، وخلصت إلى كتاب بوصلته حفظ التراث اللامادي والذاكرة الجماعية. هذا البحث الذي أشرفت عليه إيمان رجاء بن سلامة، يصور وجها آخر للمرأة، المرأة الفاعلة ثقافيا واجتماعيا، المرأة التي افتكت مكانتها بنفسها. وتقول الباحثة الجلاصي في تصريح لـ”العرب” إن قربها من أهالي المنطقة كونها ابنتهم، ساعدها على أن تدون الأغاني وحكاياتها بالحفر والنبش في ذاكرة النساء، والبحث في تاريخ المنطقة استنادا على الجمع والتحليل من منظور جندري (النوع الاجتماعي). مادة شحيحة ggg المرأة تحفظ إرثا ثقافيا مجهولا (لوحة للفنان إبراهيم الحميد) وتشير الباحثة إلى خطر اندثار هذا الموروث اللامادي حيث أن السهرات النسائية التي كانت في العقود السابقة مرجعا لحفظ الأشعار وتوارثها، لم تعد بنفس الكثافة والأشعار لم تعد لها مردِدات، كما أن المرددات في تناقص متواصل بفعل موت الحافظات أو هجرتهن نحو مدن أخرى. تحكي الباحثة التونسية لـ”العرب” أنها لاقت صعوبة في أرشفة موروث بلدة الكنائس، حيث جعل تغير بعض الألفاظ واندثارها فهمَ الأغاني مهمة صعبة تتطلب البحث في سجل واسع من المفردات ومن بينها أسامي الحلي والملابس التقليدية وطرق المرأة الخاصة في التجمل وأساليبه ومستحضراته وحتى شيفرات النسوة الخاصة في الغزل والهجاء. ومعلوم أن أغلب الأغاني المتداولة بين النساء ليس لها مؤلف معروف ولا يمكن نسبها إلى جهة معينة، فهي تتأثر بالحل والترحال، وتنتقل بين المدن والأرياف، السواحل والصحاري، فتصطبغ بتضاريس المنطقة الجغرافية وخصائصها، فمثلا هناك بعض الأغاني الشعبية التي يرددها الناس في الساحل وفي الجنوب الغربي لتونس تصطبغ بتقاليد المنطقة فتجدها تضفي مفردات عن اللباس على كلمات الأغنية وحين تغنى مثلا في “سيدي بوزيد” تضاف لها عبارات عن الفروسية والخيل وعادات البدو. كما تشير الجلاصي في بحثها إلى أن المرأة على مر العقود السابقة كانت تخجل من أن تنسب الأغاني لنفسها إذ لا مجال للأنثى لتنشد الشعر في الموروث الاجتماعي، كما أن المنظومة الاجتماعية سابقا ترى أن المرأة لا تمتلك ذوقا ولا عقلا. لكن البحث يطرح فرضية أخرى حالت دون نسب القصائد لصاحباتها وهي أن الرجل يقدم الأغاني جاهزة للنساء فيرددنها. والرابط بين كل هذه الفرضيات هو أن المرأة لا يمكن لها أن تسمح لها المجموعة بامتلاك سلطة الخطاب عبر الشعر أو الغناء أو الخرافة أو المثل الشعبي ليتحول إلى فكرة ثم ممارسة وقيمة ترسم ملامح المجتمع. وهذا ما تفسره الباحثة الجلاصي بأن بحثها في كافة الأغراض الشعرية تقريبا ما عدى “الهدهدة” كشف أن 70 في المئة من أغاني النساء تتخفى وراء ضمير المتكلم للرجل. ورغم التضييق الممارس عليها نجد أن الأغاني وخاصة أغاني الهدهدة تكون هي المساحة الأكثر حرية للمرأة في أن تمرر للمجتمع أحلامها وطموحاتها التي تتحول بفعل الزمن وتطور المجتمع إلى حقيقة. فمثلا كانت النساء تغني للأطفال حديثي الولادة (البنات منهن) “سعدْ سعدْ بنتي خير من ألف ولد.. تقرا ميسالش (لا مانع).. تسافر ميسالش” وهذه الأفعال التي لم تكن المرأة قادرة على القيام بها سابقا صارت أمرا اعتياديا لدى الأجيال الراهنة. ولأن الأغنية الشعبية جزء لا يتجزأ من ثقافة المجموعات البشرية تنتجها بما يلائم خصوصياتها الاجتماعية وهي مرتكزة على نصوص ديناميكية تتأثر بالحل والترحال والحركية الواقعية للأفراد التي تضيف للنص الرئيس مقاطع وتدفع أخرى بمرور الزمن، استوجب البحث في إحدى مراحله مشاركة شعراء تونسيين مختصين في اللهجة العامية امتلكوا تفسيرات لمفردات تونسية شعبية غابت عن اليومي لتخزنها ذاكرة محبي الشعر الشعبي. مساحة حرية كتاب يكشف الموروث اللامادي للقصائد الشعبية المغناة وخاصة منها مرددات النسوة تعد السهرات النسائية مساحة من الحرية تتيح للنساء فرصة البوح بأحلامهن والتوسع في سرد حكاياتهن ومغامراتهن فيخضن ملاحم غنائية في وجه الوأد والكتم الذي يمارس عليهن في الواقع. وتكون مردداتهن التي يتنافسن في أدائها تعبيرا جماليا وذاكرة موحدة وسبيلا لتحقيق التوازن العاطفي والنفسي. وتوضح الجلاصي أن نساء بلدة الكنائس كن في ما مضى يصدحن بالأغاني في مناسبات كثيرة كموسم الحصاد وجني الزيتون والأفراح، لكن اليوم أصبحت الأغاني تقدم حصرا في حفلات الأعراس، وربما يستغني عنها الناس نظرا إلى تغير العادات في تونس وتخلي أهالي المنطقة عن تنظيم أفراحهم لأيام وليال والاكتفاء بعقد قران بسيط أو حفل بيوم واحد. وحين تقام السهرات النسائية، تقسم إلى وصلات تكون موزعة على ثلاث أو أربع أغان كمقدمة للحفل ثم أربع أو خمس أغان وجدانية عاطفية تليها أغاني “الصالحي” وهو نوع من الأغاني التقليدية التي تؤدى بطريقة صعبة ويتوارثها عدد قليل من النساء عن أمهاتهن وجداتهن، ثم يحين الوقت للأغاني الراقصة. وبعد مغادرة الفتيات العازبات وفي حال ثبوت خلو المنزل من الرجال قد تضاف فقرة أخيرة من الغناء الذي يطلق عليه “الغناء الأخضر” وفيه منسوب عال من الجرأة في التعبير عن مواقف حسية أو التغزل بمفاتن المرأة وفي الغالب لا تستعمل النساء المصدح خلال هذه الفقرة خجلا وتسترا على مغامراتهن العاطفية. ويمكن الغناء من استجلاء الملامح الأساسية لبناء المجتمع التونسي والشخصية التونسية وقد مكنت الدراسة الباحثة الجلاصي من اكتشاف أن نسوة قرية الكنائس يستنبطن نوعا من الفخر والشعور بالتمايز على نساء باقي القرى المجاورة لأنهن “غنايات” كما يصفن أنفسهن. وبلدة الكنائس هي قرية في الساحل التونسي تتبع محافظة سوسة وتتحدث كتب التاريخ عن أن وجودها يمتد إلى أكثر من 5000 سنة. وحكمها القرطاجيون لمدة سبعة قرون ثم حكمها الرومان وفي العهد الإسلامي فُتِحَت القرية على يد عثمان بن عفان، وسُمِيت الكنائس لأن كل معلم أثري فيها يعود إلى العهد الروماني يُلقَب عند المسلمين بالكنيسة. وهي الآن جزء لا يتجزأ من تونس يحمل في داخله الكثير من موروث تونس الثقافي والاجتماعي. أغلب الأغاني المتداولة بين النساء في تونس ليس لها مؤلف معروف ولا يمكن نسبها إلى جهة معينة، فهي تتأثر بالحل والترحال، وتنتقل بين المدن والأرياف، السواحل والصحاري، فتصطبغ بتضاريس المنطقة الجغرافية وخصائصها.

مشاركة :