الشواهد والأفعال الجارية فى منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا تؤكد رحيل أمريكا عنها، عسكريًا وسياسيًا، بعد أكثر من 20 عامًا كانت الولايات المتحدة فيها متواجدة بشكل كبير، سواء فى أفغانستان، أو العراق، أو كثير من الدول العربية التى سمحت للقوات الأمريكية بإقامة قواعد عسكرية وسياسية فيها. الإعلان الأمريكى عن سحب قواتها من أفغانستان والعراق، وكذلك سحب قواعد صواريخ «باتريوت» من منطقة الخليج، ما هى إلا إجراءات أكدت النية الأمريكية فى الانسحاب التى بدأت أيام الرئيس السابق دونالد ترامب، والتى صارت حقيقة وواقعًا مع الرئيس الحالى بايدن، وهو ما سمح ببعض التغيرات السريعة والخاطفة، ومنها على سبيل المثال عودة حركة «طالبان» إلى المشهد من جديد، وسيطرتها على كل الأراضى الأفغانية، بما فى ذلك العاصمة كابول. الرحيل الأمريكى، أو بتعبير أدق «تقليص النفوذ»، له أسباب ومتغيرات عدة من وجهة النظر الأمريكية، فلا يخفى على أحد أن تواجد الولايات المتحدة فى المنطقة العربية كان أحد أسبابه الأساسية تأمين تجارة النفط العربى، والحفاظ على موارد واشنطن منها، ولكن خلال السنوات الماضية أصبحت أمريكا أقل اعتمادًا على نفط الخليج، خصوصًا بعد تطويرها أساليب استخراج النفط الصخرى. متغير آخر، وهو أن واشنطن لم تعد ترى فى المجموعات التى اعتبرتها دائمًا «إرهابية»، مثل «القاعدة» و«داعش»، أنها تمثل خطرًا على أراضيها بشكل مباشر، وهذا ما وضح فى المساندة الأمريكية فى الماضى لجماعة «الإخوان» الإرهابية، وكذلك وضح من تصريحات المسؤولين الأمريكيين، الذين أكدوا على نجاحهم فى نزع الخطر عن أراضيهم، وربما قصدوا فى هذا الأمر نقل الخطر إلى أماكن أخرى فى العالم، ومنها أوروبا، وأواسط آسيا، والمنطقة العربية. كذلك حدث خلال السنوات الماضية إعادة ترتيب فى أولويات مواجهة واشنطن للأعداء، حيث أصبحت الصين هى العدو الأول لواشنطن، وهو ما بدأ كذلك فى عهد ترامب، وتصور الجميع أن الأمر سيختلف فى عهد بايدن، لكن فى الواقع ما اختلف فقط هو اللهجة التى تتحدث بها الإدارتان، حيث كانت أيام ترامب صادمة مباشرة، وصارت أيام بايدن تميل إلى الهدوء، مع عدم اختلاف الهدف. ظهور «العدو» الصينى على قائمة أجندة الولايات المتحدة يجعل قرار سحب القوات الأمريكية من أفغانستان منسجمًا مع توجه تكثيف الحضور العسكرى فى جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبى ضمن استراتيجية جديدة لواشنطن. المتغير الأخير هو الثقة الأمريكية فى عدم إمكانية ظهور قوة واحدة تهيمن على الشرق الأوسط، أو بمعنى أضبط قوة تستطيع مواجهة قوة إسرائيل، حليفها الاستراتيجى التاريخى.
مشاركة :