قد لا يعرف كثير من السوريين أن هناك انتشارا لقواعد عسكرية أميركية في مناطق شمال وشرق سورية، مثل ريف حلب الشمالي حيث هناك قاعدة عين العرب قرب الحدود التركية. وفي محافظة دير الزور توجد قاعدة في محيط حقل العمر النفطي بريف المحافظة، وكذلك تلك القاعدة التي تقع قرب حقل التنك النفطي في ريف دير الزور ثم قاعدة الرويشد، وهي قاعدة إمداد برية في منطقة مثلث البادية، إضافة لقاعدة الباغوز بريف دير الزور، بالإضافة إلى تسع قواعد عسكرية أميركية في الشمال الشرقي أهمها قاعدة الرميلان في الحسكة تليها قاعدة المالكية بريف الحسكة الشمالي الشرقي، وقاعدة تل بيدر القريبة من طريق «إم فور» الاستراتيجي، وتتكامل هذه القاعدة مع قاعدتي «لايف ستون» و«قسرك» شرقي بلدة تل تمر على طريق «إم فور»، ويستخدمها التحالف الدولي. وربما يمكن إعادة عدم معرفة معظم الشعب السوري بوجود تلك القواعد إلى أن التدخل الأميركي في سورية لا يمكن على الإطلاق مقارنته بالتدخل الحاسم للجيش الروسي إلى جانب النظام والذي قضى على كل آمال المعارضة السورية في القضاء على الجيش السوري.. وأيضا ويا للمفاجأة فكثير من السوريين أيضا لا يستوعبون أن للوجود الأميركي في الصحراء السورية دلالات أخرى سمعت كثيرا عنها هنا في واشنطن وهي أن الأميركيين يحاولون وضع أيديهم على ما تحويه هذه الصحراء من ثروات طبيعية يمكن أن تحرم الدولة السورية ونظام بشار من الاستفادة منها، كما أنها -أي الولايات المتحدة- تقف بمكان تستطيع من خلاله المناورة في أكثر من محور بالنسبة للمحافظات السورية وللدول المجاورة، وما تحويه الصحراء السورية من ثروات طبيعية يجعل الولايات المتحدة الأميركية تتمسك بهذه القطعة من الأرض التي حاولت وتحاول على الدوام أن تجعلها قاعدة عسكرية بقدرات دفاعية وهجومية عالية... ولكن هل يمكن للولايات المتحدة التقليل من حجم الدور الروسي في سورية؟ وللإجابة عن هذا التساؤل المهم أقول بداية إن كثيرا من أحداث الشهرين الماضيين تظهر أن التنسيق الأميركي الروسي في تطور فقد كان الروس يعتقدون أن كافة الضربات الإسرائيلية تتم بتنسيق مع واشنطن، ولكن عندما أخبرهم الأميركيون بأنهم لا يحبذون الضربات الإسرائيلية المتكررة في سورية، تغير الأسلوب الروسي وظهر ذلك بوضوح في البيانات الروسية غير المرحبة بآخر عمليتي قصف إسرائيليتين، الأولى منها استهدفت منطقة السفيرة بريف محافظة حلب، والثانية طالت مواقع في منطقة القصير بريف محافظة حمص بل إن وزارة الدفاع الروسية زعمت أن منظومتي الدفاع الجوي الروسيتين (بانتسير، بوك)، اللتين يمتلكهما الجيش السوري أسقطتا «معظم الصواريخ الإسرائيلية»، التي تتوزع على 4 في ريف حمص و8 بريف حلب. ولا يخفى ما في ذلك من رسائل لأطراف عدة حيث الإيحاء بأن لدى بشار قدرات عسكرية مختلفة عن السابق، وبأن استمرار القصف من جانب إسرائيل دون تنسيق كامل مع موسكو أمر غير مقبول، وأن الأهداف الخاصة بالنظام السوري تشرف عليها موسكو بشكل مباشر، لكن المحللين هنا في واشنطن يرون أن السبب الرئيس للرد الذي أعلنت عنه وزارة الدفاع الروسية هو «من أجل الترويج لمنظومتي بانتسير وبوك، وهما منظومتان دفاعيتان لموسكو تعتبران من أفضل أنظمة الحماية للمنشآت، ضد الهجمات القريبة أو المتوسطة» وهي رسالة شديدة الوضوح عن استعداد روسيا لتسويق أسلحتها ودفاعاتها الجوية لعدة دول في المنطقة، خاصة مع تراجع واشنطن عن تزويد عدة حلفاء بطائرات متقدمة أو بأنظمة دفاع جوي. خلال حديثي مع عضو بارز بالكونغرس ذكر لي أن روسيا تبدو اليوم كمن يسعى لإنهاء الصراع في سورية، بعد ست سنوات من المشاركة الروسية المباشرة، وأن هذا الأمر يأتي بالتزامن مع الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان وربما سورية أيضا خصوصا بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية في سورية وصولا إلى المحاولة الروسية لإقناع إسرائيل بالحد من الضربات وبعد ذلك النظر في الوصول لحل سياسي مقبول دولياً في سورية. الآن مضت قرابة الشهرين على اللقاء الذي تم بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديميير بوتين في جنيف (16 يونيو 2021) وبتنا جميعا نعرف أن التجارب مع المواقف الدولية الخاصة بالوضع السوري قابلة للتحول، بناء على أولويات الدول المعنية التي تتعامل مع الموضوع السوري بوصفه ملفاً من بين ملفات الصفقات التي تمت، أو ستتم، وفق حسابات تلك الدول. أما معاناة السوريين غير المسبوقة المستمرة منذ عقد من الزمن، فيكون الحديث عنها عادة من باب تسويق الاتفاق ومن الملاحظ أن الطرفين الأميركي والروسي يحرصان في الوقت ذاته على تعزيز مواقفهما عبر التفاهم وذلك ظاهر في التوقيع على اتفاق "جنوب غرب سورية" عام 2017 بين الرئيس بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترمب؛ والذي كان بداية لكسر حلقة العنف على الحدود بين سورية و"إسرائيل"”، لكنه في نفس الوقت وضع الجنوب السوري إجمالا خارج دائرة التركيز الدولي. يمكن تلخيص التدخل الروسي بعد مرور كل هذه السنوات في أمرين أساسيين: أولهما: أن المناطق التي توجد فيها روسيا ليس هناك سلطة واضحة فيها للدولة لا للمجموعات المسلحة، وبينما تعمل الشرطة العسكرية الروسية على مراقبة الوضع، فإنه من المفترض "عودة مؤسسات الدولة" ضمن حالة إدارية وليس كسلطة دولة فهذه الحالة من التبعية الإدارية لدمشق مع غياب قوة الدولة تتكرر في آلية العمل لعدد المناطق الأخرى، مثل محافظة الحسكة، فهي لا تضمن سوى التهدئة مع عدم وجود حدود ناظمة للأدوار الأخرى، فالقوات الروسية تضمن التوازن لتوفير الخدمات الإدارية للدولة، بينما لا تتضح شرعية الدولة ضمن العلاقات داخل تلك المناطق. الأمر الثاني: أن كافة الاتفاقيات التي تشرف عليها القوات الروسية الموجود في سورية، بما فيها مناطق خفض التصعيد، هي تفاهمات مرحلية لتسهيل الوصول للحل السياسي، حيث يوفر الهدوء من أجل التفاوض، وهذا ما يفسر الدور الروسي كوسيط مع تركيا أو "قسد" أو المجموعات المسلحة في حوران، إلا أن تعثر العملية السياسية يجعل من كافة الاتفاقيات حالة غير فعالة بالنسبة لكافة الأطراف. أما الموقف الأميركي فالحق أن هناك فرقاً مهماً بين العراق وسورية يتمثل فى أن الشريك السورى المحلي، وهى قوات سورية الديموقراطية، تريد بقاء الولايات المتحدة، كضامن ضد هجمات الروس. أما فى العراق، فإن الوجود الأميركي يشكل مأزقاً سياسياً للكاظمي، الذى يواجه ضغوطاً من الفصائل المرتبطة بإيران فى حكومته، لإجبار الأميركيين على المغادرة. ومع ذلك يقول الخبراء إن أي تغيير كبير فى الموقف العسكرى الأميركي بالعراق، من المرجح أن يعقد الوضع فى سورية، لا سيما أن طريق الولايات المتحدة الأساسي للوصول إلى قواتها في شرق سورية يمر عبر الحدود مع العراق. خلال الساعات الماضية قال مسؤولون أميركيون إن استراتيجية بلادهم في سورية "لن تتغير" كما حصل في أفغانستان والعراق، في نفي لجميع التحليلات التي رجحت انسحاباً أميركياً وشيكاً من البلاد، حيث صرح مسؤول كبير في إدارة بايدن لمجلة "نيوز ويك" بقوله: "أفغانستان والعراق وسورية ثلاث قضايا منفصلة تماماً ولا ينبغي الخلط بينها وبالنسبة لسورية لا نتوقع أي تغييرات في الوقت الحالي على المهمة أو البصمة الموجودة وللتذكير نحن في سورية ندعم قوات سوريا الديموقراطية في قتالها ضد داعش. لقد كان ذلك ناجحاً للغاية، وهذا شيء سنواصله".(انتهى كلام المسؤول) ويبقى السؤال :هل ستنسحب أميركا من سورية بعد كل التطورات التي تشهدها المنطقة بعد سيطرة طالبان على 70 من الأرض الأفغانية وما تلاه من إرسال قوات أميركية إلى الكويت وتركيا؟ والإجابة هنا في اعتقادي هي أن السياسة الخارجية للرئيس بايدن ستخضع لاختبار شديد عندما يتعلق الأمر بسورية، إذ يجب على الرئيس بايدن الاستجابة هناك لأسوأ أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، والضغط على بشار الأسد للتنحي، ودعم انتقال سياسي سلمي وديموقراطي بقيادة السوريين، فلا يمكن للولايات المتحدة قبول الرواية التي أقرتها الدول الموالية للأسد، مثل روسيا وإيران، والتي تفيد بأن الحرب في سورية قد انتهت وأن الأسد قد انتصر، وبدلاً من ذلك، يجب على إدارة بايدن الإصرار على أن يتخلى الأسد عن السلطة وأن يفسح الطريق لانتقال سياسي سلمي، وهذا يستلزم التواصل مع الشركاء والحلفاء والمجتمع المدني السوري لدعم المؤسسات الديموقراطية التي تدعم إجراء انتخابات دستورية حرة في سورية، وهناك حاجة إلى تعاون أوثق بين الولايات المتحدة وتركيا بشأن سورية، حيث تدير تركيا مساحة طويلة من الأراضي السورية على طول حدودها الجنوبية التي تستضيف ما يقدر بنحو 4 ملايين شخص.. ومن منظور القانون الدولي، فإن القوات الأميركية موجودة في سورية للقيام بأنشطة تهدف إلى هزيمة داعش في إطار الدفاع الوطني عن النفس الوارد في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
مشاركة :