"أحْسَنَ اللهُ عَزَاءَكْ.. أحْسَنَ اللهُ عَزَاءَكْ هذهِ الدُّنيا جِرَاحاتٌ وآلامٌ وقَدْ شَابَتْ صَفاءَكْ فِعْلُهَا آلَمَنَا.. آلَمَنَا.. رُغْمَ أَنَّا ذاتَ يَومٍ سوفَ نَلْقَى ما أَسَاءَكْ" هذا مطلع رثائي للشاعر علي آل عمر عسيري –رحمه الله- وكنتُ أنوي إرساله إلى الصديق العزيز التشكيلي عبدالله شاهر عسيري، عند وفاة والدته/ والدتنا –رحمها الله– إلا أنها بقيت عالقة في هاتفي، فلم أرسلها إليه؛ لأنني تحرجت بسبب الموقف الذي قد لا يحتمل الشّعر، لعلمي بتعلّق أبي نواف الشديد بوالدته الراحلة. ثم فكّرت في إرسالها إلى الصديق الأثير المحامي خالد شويل، عند وفاة والدته/ والدتي –رحمها الله- إلا أنني تحرجت للسبب نفسه. أمس، عدت إلى هذه القطعة متأمّلاً متألّماً باكيا لعجزي حتى عن الاتصال بأيٍّ من الصديقين القريبين من الروح. أعدت القراءة فوجدتني أمام مطلعٍ رثائيٍّ مختلف لقصيدة طويلة مبكية رثى بها آل عمر أمه قبل أكثر من 34 عاما. في المطلع، يكرر الجملة التي يقولها المعزّون: "أحسن الله عزاءك"، مضيفا إليها مضامين ما يقولونه من عبارات التعزيَة والمواساة، ليأخذ القارئَ إلى عمق الحزن بطريقة تشبه طريقة السرديين، فـ"يسفّة –وهو الوقور دائما رحمه الله– حتى المعزين الذين يرددون عبارات العزاء العادية التي تبقى دون المصيبة والمصاب: قَالَها النَّاسُ وما أكثرَ ما قالُوا.. ومَا أقْسى المَقَالَهْ كانَ شَرْخاً في جِدارِ الصَّمْتِ.. وهْنَا في عِظامِ البَخْتِ.. زِلزالاً.. إزَلَهْ.. وتحضر أشياء الأم الغائبة حضورا مؤلما؛ لأن بينها معنويات تتجاوز الماديات، وماديات تتحول إلى معنويات، فتزيد في أسباب الألم الذي يتضاعف حين تكون عناصر التقوى هي الباقيات السائلات عنها، إذ تسأل عنها إضمامة الريحان، و"الشهادة"، والسجادة الخضراء، والعبادة، والتسبيح، والتهليل: يَسْألُ الرّيحانُ عنها و"الشّهادهْ" تسألُ السّجَّادةُ الخَضْراءُ عنها والعِبَادهْ يَسْألُ التّسبيحُ والتّهْلِيْلُ عنْها والإرادهْ و"الشهادة": مصطلح يُطلق على إضمامة الريحان عند النساء في عسير؛ ذلك أن إحداهن تحتفظ به في جيبها، فإذا شمت رائحته الزكية قالت: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وكانت إحداهن إذا أرادت أن تهدي أخرى أغصانا من الريحان، قالت لها: خذي هذه الشهادة، أو: هل تريدين أن أهب لك شهادة؟ ومن أهم الملحوظات هنا، التّكرار اللفظي والتركيبي الذي لا يخلو منه مقطع من مقاطع القصيدة، وهو يؤدي أكثر من وظيفة، أهمها الرسم التفصيلي الدقيق لصورة المشاعر، وتمكينها وتثبيتها في أذهان المتلقين؛ ولذا يكون التكرار في الرثاء عفويا؛ لأن العاطفة السائدة فيه هي الحزن، ومن أسباب التكرار: الحيرة، والتردد، وعدم التركيز، وكلها مشاعر وأفعال مرتبطة بالحزن الشديد. لا توجد آلام كآلام الفقد، في خلق الحيرة، وتشويش معالم المستقبل. ولا يوجد ألم كتألم الصديق من آلام الفقد التي يشعر بها أصدقاؤه، مع عجزه عن أن يفعل لهم شيئا سوى المشاركة الوجدانية الصامتة، والدعاء للراحلين. ولا يوجد رثاء أصدق من رثاء الأقارب. أبا نواف.. أبا جود: أحسن الله عزاءكما.
مشاركة :