الاستخبارات الأمريكية صنعت مستقبل «أشرف غنى» من الجامعة إلى السلطة قدم إلى ترامب ملفات الثروات التعدينية الأفغانية فلم يحاسبه على تضخم ثروته التى لا تقل عن ١٠ مليارات دولار سجلت أعدادًا وهمية فى الجيش ونهبت ميزانيات التدريب فخلع الجنود ملابسهم وسلموا أسلحتهم إلى طالبان التى قدمتها إلى الصين وروسيا لكشف أسرار صناعتها يتناقض الاسم الأول للرئيس الأفغانى الهارب أشرف غنى مع اسمه الثانى ! هو «غنى» قطعا بل «شديد الغنى» لكن اتهامات الفساد التى لاحقت نظامه تمنح لقبا يختلف تماما عن اسمه الأول. ويمتد التناقض إلى روايات هروبه من كابول (مطار حامد كارازاى الدولى) يوم أحد حار فى منتصف أغسطس. رواية شائعة تؤكد أنه هرب ومعه أربع سيارات من المال لم تتسعها الطائرة التى حملته إلى منفاه وبقى ما لم يتمكن من حمله على ممر الإقلاع بينما تصر شبكة الأخبار الأمريكية (سى إن إن) على أنه «لم يكن معه نقودا حرفيا» وهرب بملابسه فقط خشية على حياته من قتل بات مؤكدا لو وصل مقاتلو طالبان إليه حسب تحذير أمنى من وكالة الاستخبارات المركزية (الأمريكية) وصل إليه قبل ستة أشهر. تبدو الرواية الثانية واقعية إذ إن الرجل فضل الحفاظ على حياته وحياة أسرته فسلم مفتاح القصر الرئاسى لحارسه وسارع بالفرار من البلاد ولكن كثيرًا من شهود العيان أكدوا الرواية الأولى وتحدثوا عن أموال شاهدوها بعيونهم تسبقه إلى الطائرة. وفى تصورى أن الرجل هرب أمواله إلى الخارج قبل أن يهرب هو فقد كان يتوقع مصيره قبل شهور منذ أن رفضت طالبان مشاركته فى مباحثات الدوحة مع الولايات المتحدة التى انتهت باتفاقية قضت بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بعد عشرين سنة من الفشل العسكرى فى السيطرة على البلاد. كانت الهزيمة الأمريكية الهزيمة الثالثة لدولة عظمى فى أفغانستان بعد الاتحاد السوفيتى وبريطانيا وكأن غطرسة الكبار تمنعهم من الاستفادة من تجارب غيرهم. تصورت واشنطن أنها قادرة على تجنب العار الذى لصق بموسكو ولندن من قبل وأنفقت ما يزيد على تريليونى (ألفى مليار) دولار تسرب الكثير منها إلى بالوعات الفساد. بنيت مدارس بلا تلاميذ وشيدت مستشفيات بلا مرضى وتكون جيش (٣٠٠ ألف جندى) بلا تدريب وفى لحظات المواجهة خلعوا ملابسهم وسلموا أسلحتهم إلى لميليشيات طالبان التى ساومت روسيا والصين عليها لكشف خبايا تصنيعها. وخطأ واشنطن المزمن أنها تثق فى عملاء جندتها أجهزة استخباراتها ولو كانوا غيرمؤهلين للمناصب التى تمنح إليهم مثل الرئيس الأفغانى الهارب. ولد محمد أشرف غنى أحمد زاى فى عام ١٩٤٩ فى ولاية «لوجر» التى تسيطر عليها قبيلة البشتون الأكثر تأثيرا فى البلاد وما أن أنهى فى كابول تعليمه الثانوى حتى وجد من السفارة الأمريكية من يرشحه للسفر إلى بيروت والدراسة فى الجامعة الأمريكية هناك. وهناك أيضا التقى بفتاة ستصبح زوجته فيما بعد هى رولا سعادة التى تنتمى إلى عائلة مسيحية مارونية تمتد جذورها إلى مصر قبل أن تتفرع فى فلسطين ولبنان وسوريا والعراق. ولمزيد من السيطرة على حامل البكالوريوس فى العلوم الإنسانية العائد إلى كابول بلافرصة عمل تناسب مؤهله الجامعى فتحت أمامه أبواب جامعة كولومبيا الأمريكية ليحصل على الماجستير والدكتوراة فى الأنثربولوجيا الثقافية أكملها بأبحاث ميدانية عن مقارنة الأديان بنيت على إحصاءات نجح فى جمعها من استمارات استقصائية وزعت على مئات من الرجال والنساء. وقبل أن يعود إلى باكستان وزيرًا للمالية (عام ٢٠٠٢) أشرف على برامج إنمائية لدعم الفقراء تبناها البنك الدولى والأمم المتحدة بالرغم من أن تخصصه الأكاديمى لا يوفر له الخبرة العملية المناسبة لوضع موازنات عامة محكمة للبلاد تحدد أولويات احتياجاتها ولكن ثقة البنتاجون فى إخلاصه دفعته لخوض الانتخابات الرئاسية فى مايو ٢٠٠٩ ولكنه لم يحصل سوى على ٣ ٪ من الأصوات. وفى انتخابات ٢٠١٤ أعاد بنسبة أصوات (٣١.٥ ٪) منافسه عبد الله عبد الله (٤٤.٩٪) ليفوز بالرئاسة بعد عمليات تزوير صارخة لم يقبل بها منافسه وشهر أنصاره السلاح وشمت رائحة حرب أهلية ولكن وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى تدخل فى الوقت المناسب ليقتسما السلطة بينهما : أشرف غنى رئيسا وعبد الله عبد الله رئيسا تنفيذيا. مما يعنى أن أشرف غنى كان فى الواقع نصف رئيس. على أن الاستخبارات الأمريكية تدخلت لحسم الأمر لصالح رجلها واضعة أمام منافسه مستندات تثبت تورطه فى تهريب السلاح وجنى أموال طائلة من زراعة الأفيون فاختفى تماما عن العيون. والحقيقة أن الأفيون رغم منعه قانونا يعد المصدر الرئيسى لمعيشة ملايين من العائلات الأفغانية ويوصف موسم جنيه فى الثلاثة أسابيع الأولى من شهر إبريل بأنه موسم جنى المال الوفير. ويشك فى أن طالبان قايضت الأفيون بأسلحة وذخائر حصلت عليها من تجار يحملون جنسيات مختلفة بل إن مجموعات عسكرية أمريكية استخدمت طائراتها فى نقل الأفيون إلى الولايات المتحدة لحساب تجار كبار وكشفت الفضيحة بعد خمس سنوات من بدايتها. والحقيقة أن أشرف غنى لم يتاجر فى المخدرات ولكنه منذ توليه وزارة المالية ورئاسة البلاد لم تكن هناك رقابة سابقة أو لاحقة على ما ينفق من الأموال الأمريكية حتى أصبح واحدا من أغنى رؤساء العالم تاركا خلفه عصابات من الفاسدين فى كافة المجالات بلااستثناء. فتح «غنى» أبواب المشاركة مع إدارة ترامب لضمان الحصول على ثرواتها الباطنية خاصة المعادن النادرة الموجودة فى الجبال لسنوات طوال وفى عقود مسجلة دوليا تعرض أفغانستان إلى غرامات بالمليارات سيفرضها عليها التحكيم الدولى إذا ما فسخت العقود. وكان «غنى» قد التقى ترامب فى عام ٢٠١٧ وقدم إليه الملفات والخرائط الجيولوجية الأفغانية التى يمكن أن تحقق أرباحا بالمليارات للشركات الأمريكية حتى أنه همس فى أذنه قائلا: «إن كل ما أنفقته بلادكم فى بلادى سيعود إليكم ضعفا فى عشر سنوات». وكان يشير إلى أن الثروات الأفغانية تقدر بنحو ٤ تريليونات دولار. وفى المقابل حصل «غنى» على ملايين من الدولارات مقابل تأمين تنفيذ الأجندة الأمريكية فى أفغانستان وفى الوقت نفسه كان يمتلك مجموعة شركات تولت عمليات إعمار البلاد ونفذت مشروعات وهمية (أو مشروعات غير ملتزمة بالمواصفات) مع شركات أمريكية. أكثر من ذلك نسب إليه تسجيل شخصيات وهمية جنودا فى الجيش حتى أن صحفًا أمريكية نافذة (مثل نيويورك تايمز) شككت فى أعداد الجنود مؤكدة أنه لا يزيد على نصف الرقم المعلن. على أنه سواء كان الرقم صحيحًا أو غيرصحيح فإن الجيش لم يصمد سوى ساعات وفضل الاستسلام وكفى الله المؤمنين شر القتال. وكان طبيعيا بعد ذلك كله أن تهبط أفغانستان إلى المرتبة رقم ١٦٥ فى قائمة منظمة الشفافية الدولية التى تضم ١٨٥ دولة. حسب نيويورك تايمز أيضا فإن ثروة «غنى» قبل توليه منصب وزير المالية لم تكن لتزيد عن نصف مليون دولار حصل عليها من ميراث عائليته التى كانت تعتبر زراعة الأفيون أمرًا شرعيا على طريقة فيلم «العار» ولكن ثروته بعد أن بقى فى السلطة سبع سنوات (٢٠١٤ ــ ٢٠٢١) تضاعفت مرات ومرات لكن هناك خلافًا حادًا حول حجمها. حسب وكالة الاستخبارات المركزية (الأمريكية) لا تقل ثروته عن ١٠ مليارات دولار بينما رفعتها تحريات وكالة الأنباء الفرنسية إلى ٣٠ مليار دولار، وأمسك مستشاره السابق طارق فرهادى العصا من منتصفها قائلا: «يمكن أن نذكر مبلغ ١٥ مليار دولار دون شعور بالذنب». وسر الاختلاف فى التقديرات أن البعض يضع فى حسابها القصور التى اشتراها فى إسبانيا والمغرب وإيران وفرنسا إلى جانب استثماراته فى شركات التعدين الأمريكية والبريطانية والبعض الآخر يكتفى بالمال السائل وسبائك الذهب. لكن فى كل الأحوال لا تقارن ثروته بعد الرئاسة بثروته قبلها. وما دامت البقرة قد وقعت فإن السكاكين انهالت عليها. وخرجت روايات بلا سند حقيقى عن علاقاته النسائية السرية وعقود الزواج العرفى التى كان يوقع عليها مرة كل شهر على الأقل. على أن الحقيقة التى لا يمكن إغفالها أن الوطنية لا العمالة الشرط الأهم فى الحكم والخبرة لا الفساد شرط آخر. بتلك الحقيقة انتهت المرحلة الأمريكية الفاشلة والخاطئة فى أفغانستان وبدأت المرحلة الطالبانية المثيرة للمخاوف من تصدير الإرهاب وقهر النساء وفشل التفسيرات الدينية فى حل المشكلات الاقتصادية والسياسية.
مشاركة :