الصحوة السابقة والصحوة الارتدادية: والتغيير الثقافي المطلوب (6-6)

  • 8/30/2021
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

بعد حزمة تغييرات وإصلاحات شاملة في بدايات عام 2015، على يد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -أيده الله-، كان العام 2017 -العام اللاحق لعام تدشين رؤية المملكة 2030- حدًا فاصلًا غير مسبوق على المستوى السياسي والأمني، لإيقاف عبث التيار الصحوي بأطيافه وتنظيماته عند نهايته، ورغم ذلك فإن هذه النهاية ما زالت مفتوحة، ولا توجد ضمانة أكيدة لعدم عودة التطرف الصحوي بقالب جديد، ووجه مختلف، ما لم تكن هناك منظومة فكرية جديدة وشاملة مستمدة من سماحة الإسلام ونقائه الأصيل، مُوَشَّاةٌ بمنطلقات حضارية عالمية، تقول للعالم: «أهلًا»، وهذه المنظومة وحدها كفيلة بملء الفراغ، وتقويم الخلل، الناجم عن طغيان الخطاب الصحوي طيلة أربعة العقود الماضية. وحتى أكون صريحًا أكثر، فإن الخطاب الديني والثقافي والإعلامي السعودي اليوم بأدواته وآلياته، رغم توفر الإمكانيات المادية والبشرية، غير قادر على الوقوف بوجه المد الصحوي الشرس بكفاءة موازية، ولولا قوة القرار السياسي وحزمه، وقوة الفعل الأمني، لما أمكن للمجتمع أن يلاحق التطورات والتغيرات المذهلة التي حدثت في المشهد السعودي خلال سبع السنوات الماضية، بسبب التثبيط الصحوي المستمر، لكل بوادر الإصلاح والتطور والتحضر. وحتى تكون هذه المنظومة الفكرية بنظرياتها وتطبيقاتها في أساس بنية العقل السعودي ووجدانه، فلا بد من وجود مشاريع فكرية ثقافية مقنعة ذات عمق معرفي ينطلق من خصوصية اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا، بما يجعلنا في قلب المنظومة الحضارية العالمية، وهذه المشاريع الفكرية الثقافية الحضارية، وحدها الكفيلة بحماية الفرد والمجتمع من نمو أفكار الشر وتغوَّلها داخله. وفي هذا الصدد فمن الواجب أن أنوه بالجهود الكبيرة التي تقوم بها الحكومة السعودية ممثلة بوزاراتها المختلفة على عدة مستويات، مع لفت الانتباه إلى مراعاة تجويد المراقبة والتقييم والمراجعة الدورية لكل المشاريع والأعمال، خصوصًا مع وجود عقليات إدارية تنتمي للصحوة العميقة قد تحاول عرقلة الجهد وتثبيطه، ومن أبرز صور ذلك إلصاق رؤية المملكة 2030، أو مكافحة التطرف، بالأعمال شكلًا بلا مضمون، لضمان تمرير الأعمال الهزيلة أو ذات الأهداف السامَّة، أو لتعمية المراقب والمتابع وتظليله. ومن وجهة نظر خاصة أرى أن من أهم السبل الكفيلة الضامنة لمواكبة المجتمع رؤية المملكة 2030، هو خلق نظام فكري صُلب، عبر الأسرة والمسجد والمدرسة والإعلام، يضطلع به مؤثرون على مستوى هذه المهمة الوطنية الدقيقة، وفقًا لنظام تعليمي وإعلامي، تسانده تنظيمات تشريعية وقوانين ضابطة وحاكمة، تسيطر على أي خلل ممكن أو محتمل، ولن يكون ذلك وحده نافعًا ما لم ندرك أن التغيير الثقافي المطلوب لا بد أن يكون رافعة حضارية، تستبطن الأصالة والمعاصرة، تقوم على شكل نهضة معرفية روادها الخبراء والعلماء والمثقفون والإعلاميون السعوديون في علوم النفس والاجتماع والإدارة والسياسة والأمن والشريعة، بالإضافة إلى عدد كافٍ من مراكز بحثية متخصصة، تُنشأ خصيصًا لذلك، أو يعدل بعض القائم منها حاليًا لتلائم هذا الهدف وهذا الاتجاه. ولو أردنا وضع خارطة طريق للتغيير الثقافي المطلوب في السعودية، فلن أجد خيرًا مما ورد في حديث صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي -أيده الله-، للقناة السعودية في إبريل 2021، والذي تحدث فيه بلغة خطاب جديدة، وغير مسبوقة، لا تسمع عادة إلا في أروقة البحث العلمي المنفتح على كل الأفكار بحيادية تامة، وتمكن سمو الأمير بألمعيته وفاعليته المعتادة من تحويل فكرة معقدة غاية التعقيد إلى فكرة مبسطة، يمكن هضمها على كل المستويات، وتكمن عبقرية الأداء الفكري في حديث سموه من ناحية تفريقه بين الخاص والعام في تناول تعاليم الإسلام والتعاطي معها، حيث إنه لم يتكلم عن العبادات وفضائل الأعمال، لأنها بكل اختصار شأن فردي بين العبد وربه، ولكنه تحدث بوضوح ومباشرة عما يمس الشأن القضائي، والشأن التنفيذي، بصفته ولي أمر مناط به تطبيق ما يخص هذه الشؤون، وله أحقية شرعية بتقرير ما يراه الأصلح فيهما. ويمكن الانطلاق في تأسيس المنظومة الفكرية التي ذكرناها آنفًا، من خلال مضامين كلمة صاحب السمو ولي العهد، عبر أربعة أسس هي: الأول: القرآن الكريم دستورنا الخالد، والشق القضائي في الدولة ملزم بتطبيق النصوص القرآنية، ونصوص السنة النبوية المتواترة فقط. الثاني: هويتنا السعودية قوية، وتزداد قوة وتطورًا بالانفتاح. الثالث: لا نتبع مدرسةً أو عالمًا معينًا، فلا توجد مدرسة ثابتة، ولا يوجد شخص ثابت، والاجتهاد مستمر، ولكل زمان ومكان فتاواه. الرابع: من يتبنى منهجًا متطرفًا، مجرمٌ، ولو لم يكن إرهابيًا. وانطلاقًا من هذه الأسس العظيمة، فإن من المهم العمل على المحاور التالية: تعزيز الهوية الوطنية، وتمتين الاتجاه الوطني، عبر برامج ومشاريع يتم صياغتها على أسس علمية. تطوير نظام قيمي اجتماعي، يصنع تماسكًا ووئامًا مجتمعيًا، يكافح أي تفرقة بين أفراد المجتمع، ويعزز ثقافة احترام الآخر، ويرتقي بأسلوب الخطاب الاتصالي بأنواعه. استمرار تطوير المناهج الدراسية بوتيرة متصاعدة، ومحاولة التحديث والتطوير المستمر في بيئة المدرسة من جميع النواحي. تعديل مضمون الخطاب الديني ليضطلع بمهمة إعلاء مكانة الإنسان والإنسانية، والبعد عن أي خطاب يمكن أن يؤجج المشاعر والعاطفة الدينية بأي شكل من الأشكال. تعديل الخطاب الديني ليتجنب معضلتي احتكار الحق، وصرامة الموقف من المخالف، خروجًا من مأزق الوثوقية، وتوهم الصواب المطلق، وبالتالي الخروج من الانغلاق المؤدي إلى التطرف. تعديل الخطاب الديني بمراجعة بنية الفتوى وتكوينها وخصائصها في الفكر الديني السعودي، بغرض فتح آفاقها، مع مراعاة المراقبة الدقيقة لعملية الوعظ، ومراقبة ما يطرح من خلال منبر الجمعة. مراقبة الفكر المتداول، والأفكار المستحدثة في المجتمع بشكل دقيق وتام، المتطرف منها والمنحل، ودراستها حسب التوجهات في المجتمع، وخلق أدوات مراقبة مختلفة، وسرعة التدخل لإيقاف التجاوز، بما لا يحد من حرية الرأي المنضبطة والمسؤولة. تعزيز العلاقة بين الجهات الأمنية ومسؤوليها من جهة، وبين المواطن والمقيم من جهة أخرى، وأن تصل هذه العلاقة إلى درجة عالية من الاتصال والتنسيق والتكامل؛ لكونها تماسكًا اجتماعيًا، ولكونها تحضر من طراز رفيع. أخيرًا، يقول أمير الحلم السعودي: «إذا كانت أمامنا فرصة ولم نعمل عليها بحجة عدم التسرع فنحن متقاعسون».

مشاركة :