مشاعر تأبى النسيان

  • 8/31/2021
  • 19:45
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

مدرين المكتومية صباح الخير يا أمي.. أقصد مساء الخير، أو كلاهما! فلا أعتقد أن الزمن يشكل فارقًا في حياة البرزخ، فالزمن لا قيمة له معكِ، ولن يطول انتظارُكِ عندما تحتاجين إليّ، كي تبوحين لي بما يدور في نفسك وما يعكر عليكِ صفو الحياة، وما يُرهق قلبك الرقيق.. أعلم الآن أن كل ذلك تغير للأفضل لك في ذلك العالم الآخر الذي رحلتِ إليه، لكنه الأسوء لي ولاخوتي وأبي، إلا أنني استمدُ صبري من دعائي الذي أرفعه إلى الله في كل وقت، فيصلك بإذنه تعالى أينما كنتِ وفي أي زمان. أدركُ حقًا أن أهل العالم الآخر لا يهتمون كثيرًا بالمواعيد، بقدر حاجتهم للشعور بأنهم محاطون بالحب وان هناك من يدعو لهم بكل صدق وإخلاص، وعزائي الوحيد أنك رحلتِ لتجدين من يدعو لك ليل نهار. قبل وافتك يا أمي كنتُ احتاج إلى الهاتف كي أتحدث إليكِ، وإجراء اتصال مرئي فأرى طلتك البهية عبر شاشة هاتفي، أما الان فقد اختلف الوضع تمامًا، ولم يعد لمثل هذه التقنيات حاجة، فعالمكِ لا يحتاج لها؛ بل تصلك خطاباتنا واحاديثنا الروحية بسرعة البرق، أحاديث ما قبل النوم تسمعينها دون الحاجة لأن تكونين معي في الغرفة.. وعلى الرغم من ان الامر بات سهلا، لكنه أشد وجعًا، أعلم أنكِ في كل لحظة تحوم روحكِ الطاهرة حولي، لا احتاج لوسيط بيننا، بقدر ما احتاج للحظات خلوة، أحدثكِ فيها روحًا لروح. رحلتي يا أمي دون ان استوعب حتى الان فاجعة غيابك الأبدي، ما زالتْ محادثة الهاتف الاخيرة بيننا معلقة في ذهني، صوتها يتردد في مسامعي.. مقاطع الفيديو التي التقطها لكِ لنرسلها إلى مجموعة العائلة عبر "واتساب" وكل التفاصيل التي ناقشناها سويًا ما زالت كما هي، لم يستطع أحد أن يتخطى غيابكِ، ما زلنا نضغط بالخطأ على اسمك لإجراء اتصال، فنتذرك أننا سنسمع رسالة تقول "الهاتف الذي طلبته مغلق إلى الأبد". صدقيني يا أمي، كما قلتِ ذات يوم "صحيح أنني أنجبتك بنتًا لتكوني الأكبر، لكنني ربيتك لتكون بقوة الرجال"، وها أنا يا أمي أطبق رغبتك وأنفذها بحذافيرها، حتى تمضي الحياة، فقد عدتُ إلى عملي أسعى لإنجازه بكل تفانٍ وجد، دون أن أُشعر الاخرين بتأثير غيابك عليّ، ابتسمُ في وجه الجميع، أحضرُ الاجتماعات، أجري المقابلات في كل مكان، لكن ما بداخلي لم يتغير، والحزن الدفين في نفسي لم يصغر- كما يقولون- مع مرور الوقت! إنني الآن كما تريدين ان أكون، قوية، صابرة، محتسبة الأجر والثواب من الله، وكذلك أبي وإخوتي.. إننا نرى طيفك في كل تفاصيل حياتنا، نتلمس توجيهاتك في كل خطوة، جميعنا يدٌ بيدٍ كما كنتِ تريدين وتتمنين دومًا، لم يحلق أحدنا بعيد عن السرب؛ بل جميعا مترابطين ومتماسكين لاجل تنفيذ وصاياكِ، ولأننا ندرك أن روحكِ حولنا ولن تغيب، وانها ستغضب إن قمنا بفعل كنت ترفضينه في السابق. رحلت أمي ولم يبقْ منها إلا سيرتها العطرة، وتربيتها القويمة لنا، لم يبقْ منها سوى الحب الذي منحته لنا والثقة التي قدمتها بكل اعتزاز ونحن نسير نحو ما نريد دون الاكتراث بالآخرين. رحيلك يا أمي علمني درس قد لا يستوعبه غيري بهذه السرعة، وهي أن الحياة لا تنتظر أحدًا، ويجب أن نعيش المتاح بما نريد ويسعدنا دون الالتفات إلى الآخرين، ما دمنا على الطريق الصحيح.. سنظلُ بتلك القوة التي يعيش بها نبات الصبار، فهو حين يحزن لا يجد من يحتضنه، لذلك يظل مقاومًا ثابتًا؛ لأنه يدرك أن ما من أحد سينتشله ويحتضن همومه، وإنما يختزن كل شيء في داخله، يختزل حرارة الشمس، وتغير المناخ، وقلة المياه، يحارب بنفسه الرياح العاتية التي هب عليه من كل صوب، لكن يظل صامدًا لا تهزه الريح.. رسالتي لكل من يقرأ هذه السطور، التي ربما يرى البعض أنها شخصية، لكنني مؤمنة تمام الإيمان أنها عامة ولكل إنسان يعيش على هذه الأرض.. لا ترتدوا ملابس حداد على فقيد غالٍ؛ بل أفيقوا للحياة، واستعينوا بالصبر، فما في القلوب سيظل بداخلها آمنًا مطمئنًا، حاول أن تعيش الحياة كما يريدها لك ذلك الذي رحل عنك.. اسأل نفسك: هل سيرضى أن يرى أحباءه في الدنيا مكسورين من بعده؟ هل سيرضى أن يعيشوا في حداد طوال حياتهم؟ لا أعتقد بالتأكيد أنه سيرضة بذلك.. اخلصوا الدعاء لأحبائكم الراحلين، وافعلوا ما كان يُسعدهم في الدنيا، وحافظوا على قوة علاقاتكم مع الأهل والأحباب، ولا تتركوا فرصة لليأس أن يتسلل إلى نفوسكم، والحياة كفيلة بأن تُنسينا الهموم والأحزان، لكن سيبقى الحُب، وسيظل الحنين لمن فقدناهم قائمًا، فهي مشاعر تأبى النسيان..

مشاركة :