أ.د. عيادة بن أيوب الكبيسي * الحمد لله الذي منّ علينا، ومدّ في أعمارنا حتى دخلنا في عام هجري جديد، ألا وهو العام السابع والثلاثون بعد الأربعمئة والألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكما زاد عمر الإنسان فتلك نعمة من الله تعالى قد منّ بها عليه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فنسأل الله تعالى أن يجعله عام خير وبركة، وأمن وسلام، علينا وعلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين، وأن يطفئ الفتن التي انتشرت اليوم بين المسلمين، وأن يكفينا شر أعدائنا، آمين. ونذكّر في هذه المناسبة المباركة، بأن الهجرة إلى المدينة المنورة قد انقطعت بفتح مكة المكرمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: (لا هجرة بعد الفتح)، ولكن الله تعالى قد عوض الأمة خيراً، ففتح لها باباً من الهجرة جديداً، لا ينقطع ما دامت هذه الحياة، ذلك الباب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، وهذا باب واسع بإمكان كل مسلم أن يدخل منه، ولكن أين الداخلون اليوم؟ لو دخل الناس هذا الباب، لما رأيت هذا الانتشار الكبير للمعاصي والمخالفات الشرعية، الكبيرة منها والصغيرة في بلاد المسلمين. وإذا أردنا أيها الإخوة أن ندخل هذا الباب، وأن نهجر معاصي الله تعالى، فعلينا أن نلاحظ في أنفسنا ثلاثة أعضاء، أجل إنها أعضاء ثلاثة من استطاع أن يضبطها ويحفظها فقد أفلح وفاز وصحت هجرته إلى الله جل في علاه، ذاك لأن هذه الأعضاء الثلاثة هي سبب مهم في صقل تلك الجوهرة الثمينة التي أودعها الله تعالى في جسد هذا الإنسان، وجعلها محط نظره جل في علاه، من دون النظر إلى شيء مما خلقه الله تعالى في جسد هذا الإنسان ولا إلى شيء مما آتاه من الأعراض والأموال. إن هذه الأعضاء الثلاثة المشار إليها كالسواقي التي تمرّ من خلالها المياه النقية العذبة الصافية إلى تلك الجوهرة فتصلحها وتغذيها وتنمّيها، أو تمرّ من خلالها المياه النتنة الوسخة المتعفنة فتفسدها وتؤذيها وترديها، ولعلك الآن قد عرفت أخي الكريم ما هي تلك الأعضاء الثلاثة التي أودعها الله تعالى فيك أيها الإنسان، إنها: العين والأذن واللسان، أجل أعضاء ثلاثة لا غير، من خلالها يصلح قلبك أو يفسد، وإذا صلح القلب تلك المضغة المباركة، والجوهرة الثمينة، صلح الجسد كله، وإذا فسد القلب فسد الجسد كله، كما أخبر بذلك النبيّ المصطفى عليه الصلاة والسلام. فتأمل حالك وحال الناس من حولك، يتضح لك هذا الكلام بكل جلاء، فكم من الحسنات والخيرات والمبرات ترد من هذه الأعضاء إلى القلب، من العين بالنظر السليم في كتاب الله تعالى تلاوة وتدبراً وتفسيراً، ومن النظر في كتب العلم النافع على اختلافها وتنوعها، ومن النظر إلى بديع صنع الله تعالى في سمواته وأرضه تأملاً وتفكراً واعتباراً، ومن النظر فيما أبيح النظر إليه محبة وحبوراً، وأنسا وبهجة وسروراً، وما إلى ذلك من وجوه النظر المرغّب فيه شرعا مما لا مجال لحصره وتفصيله هنا. ومن الأذن بالسماع السليم، كسماع القرآن الكريم والحديث الشريف، والعلم النافع بمختلف فنونه وفروعه، وسماع الإنشاد العذب المرقق للقلوب، والدافع إلى فعل الخير ومدّ يد العون للمحتاجين، وما فيه بعث الهمة إلى محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعباد الله الصالحين، وما إلى ذلك من وجوه السماع المرغّب فيه شرعا مما لا مجال لحصره وتفصيله هنا. ومن اللسان بالذكر المشروع كتلاوة القرآن، والاستقامة على أذكار السنة في الصباح والمساء، وكثرة الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمال الكلمة الطيبة في المحادثات والعلاقات الخاصة والعامة، وما إلى ذلك من وجوه الذكر التي شرعها الله تعالى وندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما لا مجال لحصره وتفصيله هنا. إن القلب بما يتوارد عليه من ذلك يصفو ويرقّ ويحيا، وبذلك يزداد إيمانه، ويقوى يقينه، ويخشع ويطمئن، كما قال تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب. وفي المقابل تأمل حالك وحال الناس من حولك، يتضح لك هذا الكلام بكل جلاء، فكم من السيئات والموبقات والمكدرات التي تصب في القلب عن طريق هذه الأعضاء، من العين بالنظر المريب، ومن الأذن بالسماع المريب، ومن اللسان بالنطق المريب، فإن القلب بذلك يمرض ويقسو أو يموت، قال تعالى: بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. ألا فما أبلغ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، ولا غرو فهو الذي أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام واختصر له الكلام اختصاراً، فإن من هجر ما نهى الله عنه، اشتغل بما أمر الله تعالى به، فتأمل. اللهم اشغل جوارحنا بطاعتك، وقلوبنا بمعرفتك، وأشغلنا طول حياتنا في ليلنا ونهارنا، حتى نلقاك وأنت راض عنا برحمتك الواسعة يا أرحم الراحمين. *أستاذ التفسير وعلوم القرآن في كلية الشريعة جامعة الشارقة
مشاركة :