كيف تحدت الزراعة السورية، والصناعات المرتكزة عليها، ظروف الحرب؟ ولماذا استمرت سورية بلداً زراعياً ينتج غذاءه؟ في الأصل، تعتبر سورية قوة إقليمية زراعية، تصل نسبة الأراضي الزراعية فيها إلى أكثر من 30% من إجمالي مساحة اليابسة، وهي أعلى نسبة مسجلة عربياً، وتماثلها في ذلك تونس، ويأتي بعدهما لبنان بنسبة تصل إلى 21.4%، ثم السودان بواقع 14%. ويبلغ المعدل العربي الوسطي 5.3% والعالمي 11.8%. كذلك، تحتل سورية مرتبة متقدمة على صعيد حصة الفرد من الأراضي المنتجة المتاحة، القادرة على إنتاج المصادر الحيوية. وفي المجمل، لازالت عمليات الإنتاج الزراعي مستمرة على مستوى الأنواع كافة، وبنسب تنفيذ مقبولة، وقد حققت فائضاً للتصدير في بعض المنتجات من خلال التخفيف من الآثار السلبية للحرب، وتأمين وسائل الإنتاج، وتقديم الخدمات للثروة الحيوانية، والعمل على إيجاد بدائل لتوصيل الخدمة للفلاحين وقبل العام 2011، كان المزارعون السوريون يصدرون سنوياً ما يقرب من مليوني طن من الخضروات و212 ألف طن من المنتجات الحيوانية. وعلى صعيد دورها في الاقتصاد الوطني، يُمكن النظر إلى الزراعة باعتبارها مكوناً أساسياً من مكونات الاقتصاد السوري، ففي العام 2006 كانت تسيطر على ربع الناتج المحلي (24%). وقد تراجعت هذه النسبة بعد ذلك على خلفية ازدهار قطاعات إنتاجية أخرى، خاصة الصناعة. وفي السنوات الثلاث التالية لاندلاع الحرب، عادت حصة الزراعة لتزدهر، وأسهمت في العام 2013 بنسبة 22% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى الرغم من زيادة حضورها النسبي، إلا أن الزراعة تضررت بفعل الحرب، والعقوبات الغربية، وشمل ذلك المحاصيل الإستراتيجية كالقمح. وكانت سورية تنتج قبل الحرب نحو 3.5 ملايين طن سنوياً من القمح، وكان ذلك يكفي لتلبية الطلب المحلي، ويسمح بتصدير كميات متفاوتة إلى الخارج. وكانت الحكومة السورية تشتري في العادة 2.5 مليون طن سنوياً من المحصول المحلي، يجري توزيعه على المخابز لإنتاج الخبز المدعوم، وتعزيز الاحتياطي الإستراتيجي. لقد تغيّر الوضع الآن، على مستوى الأرقام، إلا أن الفكرة بقيت واحدة، فهناك قمح محلي يجري تحصيله وشراؤه، ولا يوجد استيراد كبير، بل إن هذا الاستيراد متعذر في الأصل بفعل العقوبات الغربية على القطاع المالي. وفي أيلول/ سبتمبر 2015، قالت الحكومة السورية، إنه مع اقتراب موسم الشراء المحلي للقمح من نهايته، فإن حصيلة مشتريات الدولة من المزارعين قد بلغت حوالي 455 ألف طن، بالمقارنة مع 523 ألف طن في العام 2014، ومع مثلي هذه الكمية في العام 2013. وزادت الحكومة سعر الشراء من الفلاحين إلى 61 ليرة للكيلوغرام، صعوداً من 45 ليرة في العام 2014. وقد باتت التكلفة الحقيقية لربطة الخبز تناهز 137 ليرة، رغم أنها تباع ب35 ليرة. وهذا يعني ببساطة أنه أصبح على الدولة أن تدفع أكثر من مائة ليرة مقابل كل ربطة خبز. ويعتمد إنتاج القمح في سورية حالياً على المناطق المروية بمياه نهر الفرات والمياه الجوفية. وكان السوريون قد شيّدوا تدريجياً على نهر الفرات عدداً من السدود، كان أولها سد تشرين، الذي تليه بحيرة كبيرة يبلغ طولها 80 كيلومتراً، ومتوسط عرضها 8 كيلومترات، وتتسع ل 11،6مليار متر مكعب من الماء. وبعد سد تشرين، يأتي سد الفرات، ويعقبه سد البعث على مجرى النهر. من جهة أخرى، يُمكن ملاحظة أن بعض المحاصيل التي لم تتأثر إنتاجيتها بالأزمة أصابتها هذه الأزمة من جهة فرص التصدير. وهذا ينطبق على وجه خاص على الحمضيات، وحيث تحتل سورية المرتبة الثالثة عربياً على صعيد إنتاج الحمضيات بعد مصر والمغرب. وهناك حوالي خمسين ألف أسرة سورية تعمل في زراعة الحمضيات، يضاف إليها مئات الآلاف ممن يساعدونها في عمليات الخدمة المختلفة، من قطاف ونقل وتسويق وغيرها. وارتفعت المساحة المزروعة بالحمضيات في سورية من 25 ألف هكتار عام 2000 إلى 43 ألف هكتار في العام 2014، وارتفع عدد الأشجار في الفترة ذاتها من عشرة ملايين شجرة إلى 14 مليوناً. وتتركز بمحافظة اللاذقية 76% من المساحة المزروعة بالحمضيات، وتنتج أكثر من 82% من إجمالي الإنتاج السوري، تليها محافظة طرطوس. وتعتبر الحمضيات السورية ذات قدرة تنافسية كبيرة في الأسواق الخارجية، إذ إن تكلفة إنتاجها وتسويقها تعتبر محدودة نسبياً، قياساً بالعديد من دول الحمضيات، داخل المنطقة وخارجها، الأمر الذي منح هذه الحمضيات، في السنوات الماضية، أفضلية ملحوظة في الأسواق، وساهم في نجاحها. كذلك، يغطي إنتاج التفاح السوري الأسواق المحلية، ويوفر كميات فائضة عن حاجة السوق، تصل الى حدود 100 ألف طن. وقد قدر موسم عام 2015 بنحو 280 ألف طن. وتشير احصائيات وزارة الزراعة السورية إلى أن متوسط صادرات التفاح بلغ نحو 38% من الإنتاج خلال السنوات الثلاث الماضية. ومن ناحية أخرى، هناك إنتاج كبير من البطاطا خلال العروة الحالية، يصل إلى 700 ألف طن، في حين لا يزيد الاستهلاك المحلي على 300 ألف طن. وفي المجمل، لازالت عمليات الإنتاج الزراعي مستمرة على مستوى الأنواع كافة، وبنسب تنفيذ مقبولة، وقد حققت فائضاً للتصدير في بعض المنتجات من خلال التخفيف من الآثار السلبية للحرب، وتأمين وسائل الإنتاج، وتقديم الخدمات للثروة الحيوانية، والعمل على إيجاد بدائل لتوصيل الخدمة للفلاحين. وفي العام 2014، بدأت الهيئات المعنية العمل على تشكيل فريق لتطوير الثروة الحيوانية، وتم رصد ميزانية بمقدار 73.13 مليون دولار لهذا المشروع. وكانت سورية من أكثر الدول المصدرة لمشتقات الحليب من ألبان وأجبان لمختلف الدول المجاورة، عدا عن كونها مصدّراً أساسياً للحوم العواس والأبقار. ويعتبر قطاع الثروة الحيوانية في سورية من أكثر القطاعات المشغلة للأيدي العاملة، لكونه قطاعاً حراً، وتنتشر أماكن عمله في الأرياف، وتعتمد عليه الكثير من الأسر. وهذا الوضع لازال مستمراً بصور متفاوتة. وحسب البيانات المحلية، فقد شملت قروض المصرف الزراعي السوري لهذا الموسم جملة من المحاصيل الرئيسية كالقمح والشعير، بالإضافة إلى المحاصيل الطبيعية والعطرية، على أن يتم تمويل مستلزمات الإنتاج عينياً فقط، كالبذار والأسمدة والأكياس، يضاف إليها تمويل خدمات البيوت البلاستيكية. وبلغ إجمالي القروض الممنوحة للفلاحين من قبل المصرف الزراعي 52.690 مليار ليرة. كذلك، واجه السوريون أزمة القطاع الصناعي (بما في ذلك الصناعات الغذائية) بمنظومة إجراءات إدارية ومالية، منها تخفيض معدل الفائدة لجميع القروض الصناعية والتجارية والعقارية، وإعفاء مستلزمات الصناعة والمواد الأولية للصناعة من الرسوم الجمركية وكل الضرائب والرسوم الأخرى، وتخفيض نسبة مساهمة العامل ورب العمل في التأمينات الاجتماعية إلى 5.11%، وإعادة جدولة الديون المتعثرة للصناعيين والتجار في المصارف العامة والخاصة. واليوم، يمكن القول إن بعضاً من القطاعات الإنتاجية الرئيسية قد بدأت مسيرة التعافي. كذلك، فُتح عدد من القنوات البديلة على مستوى التجارة تصديراً واستيراداً. وفي الآونة الأخيرة، أعلنت دمشق عن عودة انسياب المنتجات الزراعية بين الأسواق السورية والعراقية. ووفقاً لاتحاد المصدرين السوريين، فإن حركة التصدير باتجاه العراق بدأت تعود تدريجياً. ووقّع الاتحاد في 17 أيلول/ سبتمبر 2015، اتفاقية تفاهم مع اتحاد الجمعيات الفلاحية في العراق لتبادل المنتجات الزراعية في سبيل دعم انسياب السلع والبضائع الزراعية والغذائية بين سورية والعراق. وقبل اندلاع الحرب، كانت قد تحققت تجارة عربية بينية، مرتكزة أساساً على الإنتاج والتصنيع الزراعي، وكان لسورية دور مهم فيها. هذه التجارة بدت مكسباً عربياً ثميناً، في وقت غابت أو اضمحلت فيه الصور المختلفة للعمل الاقتصادي العربي المشترك. ولقد بدت الحرب بمثابة عامل ضغط كبير على هذه التجارة، وذلك لسببين هما: توقف الصادرات الزراعية والغذائية من سورية. وتضرر حركة النقل الإقليمي البري، التي تعد المنافذ السورية ممراً تقليدياً لها. فالأردن، على سبيل المثال، خسر واحداً من أهم طرق الشحن البري في الشرق الأوسط، ذلك الذي يربط تركيا وسورية بدول الخليج والجزيرة العربية. وفي هذه الأثناء أيضاً، خسرت سورية والعراق معاً طريقاً برياً آخر لحركة التجارة في الشرق الأوسط، هو ذلك الذي يُمثله معبر التنف – الوليد، الذي يُعد من أبرز طرق إمدادات الغذاء في المنطقة. وهذا فضلاً عن خسارة معبر القائم-البوكمال، قبل ذلك بأعوام. لقد كانت التجارة الزراعية والغذائية -التي تتوسطها سورية - تُمثل حالة نادرة للتكامل الاقتصادي العربي، وبضربها فقد العرب ما قد يكون آخر صور تكاملهم. وفي أحد أبعادها، كانت الزراعة السورية مكسباً كبيراً للمنطقة العربية، وخاصة دول الخليج العربي، وبتضررها تضررت الأسواق الزراعية والغذائية على نحو مباشر، وفقدت الكثير من هامش المرونة الذي كانت تتمتع به. وما يُمكن قوله خلاصة هو أن الزراعة السورية قد تمكنت من تحدي الحرب، وواصلت دورها في تحقيق الأمن الغذائي للسوريين، ورفد اقتصادهم الوطني بمقومات النهوض، إلا أن دورها الأوسع سوف يبدأ اعتباراً من اليوم الذي تنتهي فيه الحرب، ويعود لسورية سابق أمنها واستقرارها. إن المطلوب اليوم هو جهد أممي منسّق للدفع باتجاه التسوية السياسية للأزمة السورية، على نحو يجنب سورية مزيداً من الخسائر، ويحفظ وحدتها الترابية، ويصون تعايشها الأهلي، ويعزز فرص تنميتها الاقتصادية.
مشاركة :