قانون مكافحة التحرش: لماذا يرفضونه؟ - يوسف بن عبدالعزيز أباالخيل

  • 11/30/2013
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

عندما قرر الراحل الدكتور د.غازي القصيبي رحمه الله (تأنيث) محال بيع المستلزمات النسائية، لم يكن يخالج أحدنا شك في أن قراره سيجد ترحيباً عارماً ممن كانوا ينادون بتوفير بيئة اجتماعية خاصة بالمرأة نظراً لأن القرار بدأ بأكثر شؤونها خصوصية: بيع مستلزماتها الخاصة التي تخجل أن تبوح بتفاصيلها إلى الباعة الرجال, إلا أن المفاجأة التي لم تكن تدور بخلد الكثيرين, أن رفض القرار, ومن ثم الاحتساب على عدم تنفيذه, جاء من قبل من كانوا "يحملون" راية الدفاع عن خصوصية المرأة. فلقد رفضوا القرار, وشنوا عليه حملة لا هوادة فيها حتى أجِّل, وانتقل القصيبي إلى جوار ربه دون أن تكتحل عيناه بتموضع القرار على أرض الواقع. دار الزمن فعايشنا رفضاً يمد بشبه إلى رفض قرار تأنيث محال بيع المستلزمات النسائية. حدث ذلك عندما نفرت طائفة منا للمطالبة بسن قانون لمكافحة التحرش, تلك الفعلة الشنيعة التي تشكل اعتداء صارخاً على الأعراض, والتي هي, أعني الأعراض, إحدى الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بحفظها,. ما أن تعالت الأصوات المطالبة بسن هذا القانون, إلا وأذن مؤذن أيها المطالبون به إنكم لخاطئون. وكانت المفارقة أن طلائع رفض قانون كهذا جاء من قبل نسوة محسوبات على صف الداعيات اللائي أخذن على عاتقهن الدعوة إلى تعظيم طرق العفاف, ودرء سبل الرذيلة. أول رفض نسائي جاء - وفقاً لما قرأت - من قبل الداعية الدكتورة رقية المحارب, التي ربطت بين سن قانون مكافحة التحرش والتشريع للاختلاط! لكن أبرز رفض نسوي جاء من قبل الداعية الدكتورة نوال العيد في مقال لها نشرته في جريدة الحياة بعنوان (قانون التحرش), رأت فيه أن "عقوبة التحرش وحدها لن تحمي المرأة إذا كانت البيئة تشجع وقوع التحرش وتدعمه", وأن أنسب وسائل مكافحة التحرش إنما تكون "بعلاج مسبباته". ولنا أن نسأل: هل علاج "المسببات", كما هي عبارة الدكتورة نوال, كافٍ لعلاج مشكلة بحجم التحرش؟ وهل الاكتفاء ب"المسببات", أو حتى التراخي بالدور العلاجي(= العقوبة) عن الدور الوقائي, متوافق مع السياسة الجنائية في الإسلام؟ مع العلم أننا نفهم من عبارة الدكتورة نوال أنها تنظر إلى علاج" المسببات" على أنه العلاج الوحيد للمشكلة, إذ ألفيناها تقول: "وعلاج الشيء لا يكون إلا بعلاج مسبباته", ثم بدأت في شرح"المسببات" وكيفية علاجها من وجهة نظرها! من نافلة القول: إن السياسة الجنائية في الإسلام اتبعت في سبيل مكافحتها للجريمة, سبيلي الوقاية والعلاج معاً. الدور الوقائي في هذه السياسة موجه إلى كافة الجرائم, سواء أكانت تشكل اعتداء على حقوق الله تعالى, أم على حقوق الناس. أما الدور العلاجي(=العقوبات) فموجه إلى الاعتداء على حقوق الناس. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى, فإن السياسة الجنائية في الإسلام لم تفْصِل, في معالجتها للجريمة, بين الأسباب الوقائية والأسباب العلاجية, خاصة في الاعتداء على الضرورات الخمس, بل ربطت بينهما برباط وثيق. ويمكن القول: إن الإسلام بدأ بتدشين الأسباب الوقائية إبان الفترة المكية بسبب أنه لم يكن للإسلام حينها دولة تشرع وتنفذ العقوبات, فلما أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولة المدينة نزلت نصوص العقوبات, بالنسبة للجرائم التي تتماس مع الضرورات الخمس, وأبقت على الجرائم التي لا تتماس مع حقوق نفسها دون عقاب دنيوي. ولم يقل أحد من الفقهاء, على الرغم من كثرة ما تطرقوا إليه من مواضيع, وما فرعوا عليها من فروع: إن الجرائم التي تتصل بالاعتداء على النفوس والأعراض والأبدان والأموال والعقول, مما لم يشرع لها حدود, لايجوز للإمام سن عقوبات تعزيرية لها قبل تفعيل, أو اختراع أسباب وقائية تجاهها. ولا أدري من أين استقت الدكتورة نوال ضرورة تراخي الأسلوب العلاجي عن الأسلوب الوقائي, وهو تراخٍ لا وجود له, حسب علمي, في السياسة الجنائية في الإسلام. ومع ذلك, فحتى العوامل الوقائية التي اقترحتها الدكتورة نوال, لتكون بديلاً عن سن مكافحة التحرش, وهي كما جاء في مقالها(منع كل من التبرج والسفور والخضوع بالقول، وإغلاق قنوات العهر والفساد التي تمول بأموال الخليج), لم تكن أكثر من وعظ مجرد. والوعظ مع انتشار قيم معاكسة, لا يجدي فحسب, بل إنه قد يؤدي إلى عكسه. فمثلاً, طالبت الدكتورة نوال بمكافحة التبرج والسفور كإحدى سبل مكافحة التحرش, فهل التبرج والسفور مقصوران على المحلة والشارع والسوق الذي يرتاده المتحرش؟ إذا لم يجد الشاب التبرج والسفور بالشارع وجدهما بالتلفزيون, وإذا لم يجدهما بالتلفزيون وجدهما بالنت. بل إن التبرج والسفور, على سوئهما, لم يعوادا يثيران الشباب ويدفعانهم نحو التحرش, كما تفعله المثيرات الأخرى الأكثر إثارة لغرائزهم. ذلك أن بإمكان أحدهم مشاهدة أسوأ الأفلام الإباحية بضغط زر بمساعدة بروكسي مجاني يفتح له كافة القنوات والمواقع المغلقة. فهل يمكن بعد ذلك أن نطالب بمكافحة التبرج لنكافح التحرش, وهل المشكلة مقصورة على التبرج والسفور فقط؟ ومثله "إغلاق قنوات العهر والفساد التي تمول بأموال الخليج", كما هي عبارة الدكتورة نوال, فهل إذا أغلقت هذه القنوات التي تمول بأموال الخليج, لن يجد الشاب المتحفز للتحرش, قنوات أخرى تنشر عهراً من نوع آخر؟ بلى سيجد آلاف القنوات بتكلفة زهيدة لا تتعدى ربما نصف مكافأته الجامعية الشهرية! وهل يمكن القول بعد كل ذلك: إننا قبل أن نسن قانوناً لمكافحة التحرش, علينا أن نوصد الأبواب الموصلة إليه, وماهي هذه الأبواب؟ منع التبرج والسفور والخضوع بالقول, وإغلاق قنوات العهر! ألا يعني أننا نقول بطريق آخر: لا لسن قانون لمكافحة التحرش؟ والغريب أن الدكتورة طالبت من ضمن ما طالبت به من الأساليب التي يكافح بها التحرش وقائياً, ب( تعزير المتبرجات!!). إن سن قانون لمكافحة التحرش إنما هو محسوب على العقوبات التعزيرية الموكول أمرها للإمام لمراعاة عدة أحوال ليس من بينها تراخي الأسلوب العلاجي عن الأسلوب الوقائي. ومن هذه الأحوال, كما يقول الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (الفقه الإسلامي وأدلته) "معاقبة المجرم بما يكافئ جريمته, ويقمع عدوانه, ويحقق الزجر والإصلاح, ويراعي أحوال الشخص والمكان و(التطور). وذلك يختلف باختلاف درجة (التطور) وتحضر المجتمعات, وتهذيب الجماعات, وأحوال الناس في مختلف الأمكنة والأزمنة". ومن رحمة الله تعالى بعباده, كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" أنْ شَرَعَ العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض, في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجراح والقذف والسرقة". ولأن التحرش من الجنايات التي تقع على الأعراض, مما لم يُشرع لها حد, فكان حرياً بالدولة, لا سيما في هذا الزمن التي تعاظم فيه داء التحرش, أن تبادر إلى سن قانون أو نظام لتجريمه, ومعاقبة من يتولى كبره. ولايصح الاكتفاء بالأسباب الوقائية فحسب, خاصة إذا كانت محسوبة على القيم الوعظية المجردة.

مشاركة :