قد يكون ما حدث في كابل درسًا مهمّا وخطيرًا لمستقبل الشؤون الخارجية الأميركية وعلاقة أميركا بحلفائها؛ إذ يعد ما حدث شاهدًا حيًّا وبرهانًا جليًّا على أن الانقسام السياسي داخل أميركا أصبح تأثيره عابرًا للحدود ويهدد ثقة دول العالم بقدرة القيادة الأميركية على الحفاظ على التزاماتها ومواثيقها بعد أن أصبحت أيديولوجيات الحزب والصراع بين السلطة التنفيذية والتشريعية سيد الموقف بغض النظر عن المصالح المشتركة التي تأخذ بعين الاعتبار الطرف الآخر من الاتفاق! في الحالة الأفغانية بدأت المفاوضات وتحديد الشروط والالتزامات الخاصة بكيفية الانسحاب الأميركي وآليته في عهد الحزب الجمهوري بقيادة دونالد ترمب بين عامي 2017-2020م، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان وخسر الجمهوريون الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2020م لصالح الديموقراطيين وهنا بالتحديد بدأت جذور الكارثة الإنسانية والسياسية التي نشهدها اليوم في أفغانستان. عندما بدأت المفاوضات في عام 2017م كانت إدارة ترمب على قناعة بأن حركة طالبان هي الوريث الشرعي للحكم في أفغانستان وأن القوات الأميركية حققت هدفها عندما تمكنت من اغتيال أسامة بن لادن الذي أعلن أنه المسؤول عن هجمات 11 سبتمبر 2001م، بمعنى أن الهدف من الوجود العسكري في أفغانستان تحقق قبل عقد من الزمن. وفقًا لهذه القناعة تحركت إدارة ترمب وبذلت كل ما يمكن أن يبني الثقة بينها وبين حركة طالبان لتتمكن القوات الأميركية من الانسحاب دون خسائر والمحافظة على شكل من أشكال التمثيل الدبلوماسي بين أميركا وأفغانستان تحت سلطة حركة طالبان؛ لذلك أطلق البنتاغون بتوجيه من إدارة ترمب سراح قيادات طالبان الذين كانوا على قائمة الإرهاب وكان من أبرزهم الملا عبدالغني بدار والذي كان اعتقاله في عام 2010م من أهم الانتصارات الأميركية، كذلك أنس حَقَّانِيَّة الذي أعتقل في عام 2014م وهو الشقيق الأصغر لنائب زعيم حركة طالبان وقائد شبكة حَقَّانِيَّة الإرهابية حسب تصنيف الولايات المتحدة الأميركية. ومن الأسماء القيادية البارزة كذلك محمد فضل، وخير الله خيرخوا، وعبدالحق واثق، ونورالله نوري. وتحركات ترمب في هذا الاتجاه لم تقف عند إطلاق سراح القياديين فقط، حسب ما أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية بأن الحكومة الأفغانية أطلقت سراح نحو خمسة آلاف من أسرى طالبان. جميع تلك الجهود التي بذلها ترمب سقطت في بئر سحيق بعد أن خسر الانتخابات لصالح الحزب الديموقراطي بقيادة بايدن التي تتفق مع ترمب في أن الهدف قد تحقق ويجب الانسحاب، ولكن تختلف معه في أمر جوهري يعد السبب الحقيقي في انهيار المشهد في أفغانستان وهو أن الحكومة الأفغانية بقيادة أشرف غني هي الحكومة الشرعية وخير شاهد على ذلك تصريح بايدن الشهير الذي قال فيه: "الجيش الأفغاني جيش منيع بعدد 300 ألف جندي وهذه القوات مجهزة بقدر من التجهيز أي جيش نظامي في العالم ولديهم قوات جوية بينما طالبان عددهم 75 ألف شخص فقط، دعوني أذكركم: طالبان ليست الجيش الفيتنامي واحتمالية سيطرتهم على أفغانستان أو اقتحام السفارة الأميركية غير واردة والتقارير الاستخباراتية تؤكد ذلك". وما زاد الطين بلة وأكد على تباين السياسات أن بايدن قال بعد اندلاع الأزمة: "إن إطلاق سراح عناصر طالبان كان خطأ فادحًا من قبل إدارة ترمب تسبب في فشل الانسحاب". هذه التصريحات من قبل بايدن أشعلت فتيل الأزمة وأوغلت في تعميق جراحها، حيث أدركت حركة طالبان أن مسار الأحداث قد انحرف وأن الشروط والالتزامات الخاصة بكيفية الانسحاب وآليته تغيرت بمجرد تغير القيادة في البيت الأبيض؛ تمامًا كما حدث في اتفاق لوزان النووي الإيراني بعد خسارة الديموقراطيين البيت الأبيض لصالح ترمب ومجلس الشيوخ لصالح الحزب الجمهوري. حلفاء أميركا اليوم يتابعون الأحداث بقلق شديد، فالشواهد على أن ملف الشؤون الخارجية الأميركية بما في ذلك الاتفاقيات والمعاهدات لم تعد تساوي الحبر الذي تكتب به، وأن الانقسام داخل أميركا أصبح يهدد مكانة أميركا داخل المشهد الدولي. لذلك يجب على أميركا أن تبذل كل جهد للعودة إلى معادلة الضبط والتوازن بإعادة مجلس الشيوخ إلى الواجهة وعدم الالتفاف حوله من خلال القرارات التنفيذية لتتمكن من استعادة ثقة العالم بقيادتها، وإنقاذ تايتانيك السياسة الخارجية الأميركية قبل فوات الأوان.
مشاركة :