التاريخ حرية فكرية أم وثنية

  • 9/4/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يحكي لي (الضابط المتقاعد) الحاصل على ماجستير السياسة الشرعية من المعهد العالي للقضاء بتقدير امتياز محمد زاهر الألمعي (مواليد 1360/‏ 1941) عندما سألته عن سر التحولات الفكرية العنيفة في حياته، قال لي: ربما يعود الأمر إلى حساسيتي الشديدة (الاستثنائية) بمعنى التاريخ/‏ الزمن منذ الصغر، ثم حكى لي دهشته عندما دخل المدرسة لأول مرة في حياته ورأى المعلم يكتب تاريخ اليوم في أعلى السبورة، ثم شرح الدرس مستخدماً وسط السبورة، يقول: استغربت تجاهل المعلم للأرقام التي كتبها أعلى الجهة اليمنى للسبورة فلم تكن ضمن شرح المعلم، وعندما انتهى المعلم من شرح الدرس، سألته عن الأرقام الموجودة في أعلى الجهة اليمنى منها فكانت الصدمة الثانية عندما بدأ يوضح لي بالأرقام معنى التاريخ الموجود، فقلت له يعني أن هناك سنوات كثيرة منذ بعثة الرسول حتى الآن فقال له المعلم، بل مئات السنوات تتجاوز الألف والثلاثمائة سنة، فسأل المعلم، وهل هناك شيء قبلها، فقال له: نعم هناك آلاف السنوات مثلها عاشتها البشرية قبل البعثة حتى الآن، يقول: شعرت بدهشة مع قلق كبير بمدى جهلي المخيف بالأحداث والحياة والناس بالمعنى التاريخي المادي لهذا الجهل، وأني لا أطيق الحياة دون أن أعرف ما الذي حصل على جميع المستويات التاريخية والعلمية (بشكل حقيقي)، ثم بدأ مشواره مع القراءة المرتبط بإحساس فكري حاد وشجاعة فكرية جادة في الحفر على كل ما ردمته العاطفة الإنسانية من ثقوب معرفية وأسئلة حقيقية، مما نتج عنه معاناته الخاصة التي ختمها باستقراره في مزرعته الكبيرة (معتزلاً الناس)، لأنه لا يحتمل الزوار المتطفلين على حياته والنظر إليه باعتباره (كائنا فكريا غريبا). هذا الشعور بالوقت يجعلنا نسأل أنفسنا عن معنى الزمن وأهميته في الوعي الحضاري الإنساني، وهل هناك تلازم ما بين تفاعل الشعوب تجاه الزمن وما يترتب عليه من ترسبات تاريخية في (لا وعيها)، لتجد ما يفاجئك عندما تقرأ في كتاب «الإلمام بالحقيقة» لهانس روسلينغ تفاصيل زيارته لفيتنام، حيث طلب من صديقه الفيتنامي أن يريه النصب التذكاري لحرب فيتنام فقال له صديقه الفيتنامي: أنت تقصد حرب المقاومة ضد أمريكا، فنحن لا نسميها «حرب فيتنام» ليأخذه إلى حجر صغير مع صفيحة معدنية من النحاس الأصفر بعلو ثلاثة أقدام، يقول الدكتور هانس «ظننت أنه يمزح» هل هذا النصب التذكاري الصغير هو ما يمثل حرب نتج عنها وفاة مليون ونصف فيتنامي وثمانية وخمسين ألف أمريكي، «هل كانت هذه هي الطريقة التي أحيت بها المدينة ذكرى كارثة كتلك» شعر الدكتور هانس بالخيبة، لكن رفيقه الفيتنامي (نييم) أخذه ليرى نصباً تذكارياً أكبر: حجر رخامي، بعلو 12 قدما للاحتفال بذكرى الاستقلال من الحكم الاستعماري الفرنسي، ولم يزل شعور الخيبة ملازماً للدكتور هانس حتى سأله «نييم الفيتنامي»: هل أنت مستعد لترى النصب التذكاري الملائم لعبارة «حرب فيتنام»، ثم قاد السيارة إلى مكان أبعد قليلاً وأشار من النافذة من فوق رؤوس الأشجار، حيث استطاع الدكتور هانس أن يرى باغودا كبيرة (الباغودا مبنى على شكل قصبة طويلة) مغطاة بالذهب، ظهرت بارتفاع (300) قدم تقريباً، ثم قال الفيتنامي: (هنا نحتفل بذكرى أبطالنا في الحرب أليست جميلة؟) كان هذا النصب لحروب فيتنام مع الصين، حيث دامت حروب الفيتناميين مع الصين على نحو متقطع مدة ألفي سنة، ودام الاحتلال الفرنسي لمدة مائتي سنة فقط، أما حروب المقاومة ضد أمريكا فلم تتجاوز عشرين سنة. وهنا نعود للشعور بالزمن كبعد حضاري مؤثر في تكوين الشعوب، ولهذا لا نستغرب عندما نرى قدرة مصر على هضم الاحتلال الفرنسي ثم الإنجليزي كشيء هامشي جداً بجوار تاريخها الحضاري الطويل في هضم آلاف السنين من التحولات السياسية المتغلغلة في (ديموغرافية) الشعب المصري ليصبح قادراً على هضم كل محاولات الهيمنة المادية أو المعنوية على تاريخه، منذ الحضارة المصرية القديمة مروراً باليونان والرومان، فالمساجد الفاطمية باقية، والمصلون بداخلها ليسوا فاطميين، والفراعنة ماتوا وأبو الهول ما زال حاضراً، والمسلمون أصبحوا أغلبية وكنائس الأقباط ما زالت عامرة بالمصلين، إنها مصر التي لا تتنكر لتاريخها، لكنها تستدمجه في موزاييك عظيم لا يليق إلا بمصر التي تدرك عظمتها في أنها (أم الدنيا). بعد هذا الاستعراض الموجز هل لنا القول: إن شعور الأمريكي بالوقت ضيق جداً ليتقاطع مع تاريخه الحضاري القصير جداً، وهل يرفع هذا الوعي من إحباط البعض في تأخر النهضة العربية متجاهلاً أن النهضة العربية بالمعنى التاريخي القديم قد بدأت منذ سبأ ومعين وبالمعنى الحديث منذ سقوط (الدولة العثمانية)، وقيام (حركات التحرر الوطني)، بقي سؤال: هل الارتهان للماضي نوع من (عبادة التاريخ) إن كان ذلك كذلك فالغرب مولع بالنصب التذكارية لكل رموز الماضي، فهل عبدها، أم أن الوثنية الآبائية في زمننا الحديث أصبحت أكثر عمقا من مجرد تمثال عادي يرتبك من أجله السطحيون في عقائدهم، إنه يظهر في السلوك وفلتات اللسان، ليختلط على المتخلفين الفرق بين التقدير والتقديس الذي أوضحه إبراهيم البليهي في معنى العظمة بأنها (ليست نفياً للنقائص، لأن التقدير تقييم موضوعي أما التقديس فهو غيبوبة خرافية فالتقدير يكون غالباً من فرد لفرد آخر بناء على استقصاء موضوعي، أما التقديس فهو في الغالب يكون تقديساً جماعياً فهو مبني على المحاكاة والتوارث والتقليد) ومن غرائب الأمور أن تجد من يجيبك باسترسال على سؤال: هل أخطأ الرسول الكريم في بعض قراراته أو أموره الخاصة ليبدأ الشخص باستعراض (سبب نزول سورة عبس، وحادثة التقييم العسكري لمكان الجيش قبل بئر الماء أو بعدها في معركة بدر، وسبب نزول سورة التحريم، وخلاف العلماء بين ما هو سنة من أفعال الرسول وأقواله وما ليس كذلك... الخ)، ولكنك تجده عاجزاً أبكم عندما تسأله في المقابل سؤالاً عادياً عن بشر عادي ليس نبياً ولا صحابياً وتقول له: عدد لي عشرة أخطاء وقع فيها ابن تيمية أو ابن القيم أو البخاري دون تبرير بالفارق التاريخي، ثم تتراجع وتطلب منه خمسة أخطاء فقط، فيثور عليك ثورة تشك فيها أنه قد خلط ما بين (تقدير العلماء، وتقديسهم) مما يوضح لنا أن الأمم المتحضرة تجاوزت تعظيم العلماء في عصورها المظلمة إلى تعظيم العلم في عصرها المزدهر، بينما (الوثنية الفكرية) تحتاج إلى مراجعة ومناقشة تتجاوز قدرة هذا المقال الأسبوعي العابر.

مشاركة :