يقدم لنا الروائي تحسين علي كريدي في روايته الجديدة "أوراق لخريف أحمر" والصادرة عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق (2021) رؤية سردية محملة بالكثير من الدلالات التي تغوص في مسار الأحداث التي شهدها العراق بعد العام 2003 من صراعات داخلية وخارجية تسببت بانقسام مجتمعي خطير كاد ان يؤدي بالبلد. رؤية أراد الروائي في تنويه على الصفحة الأولى ان يبعدها عن الحقيقة وينسبها الى "مخيلة الروائي" ، لكنها يمكن ان تكون كذلك في مجال السرد غير انها لا تبتعد عن الحقيقة كثيرا في مجال المقاربة مع الواقع. يرتكز المسار السردي في "أوراق لخريف احمر" على سيرة "حسن" الشاب العراقي الذي يعيش معاناة كبيرة بعد موت اسرته جميعا وبقائه وحيدا في بيت كبير يقع بمنطقة راقية "شارع فلسطين" غير أنه إنسان بلا عمل يرفض محاولات عماته لتزويجه باعتباره آخر ذكور العائلة الباقين على قيد الحياة. تبدأ الرواية من هذه النقطة "بعد أسبوع من مواراة جسد والدي الثرى، تفرق عني معظم المعزين"، " انت اليوم، الذكر الوحيد المتبقي الذي يحمل اسم اسرتنا، ولا سامح الله وحدث لك مكروه، فسيندثر ذكر العائلة، الى الابد". قضيتان في آن واحد، الشعور بالوحدة (للفرد)، واستمرارية الوجود (للعائلة)، كما تبرز قضية الانتماء الى الجماعة، رغم أن قضية الفرد تستحوذ على مسار السرد ما بين استذكار التاريخ الشخصي لحسن وعائلته. ورغم أن السرد يأتي بصيغة المتكلم، عندما يرتكز الحدث على والد حسن وكيف خسر ثروته بسبب الحرب، وخيانة العامل المصري الذي ائتمنه على محله، الا أنه في الوقت نفسه يعبر عن الجماعة كون الوالد هنا يصبح ممثلا عن الشباب العراقي الذي خاض غمار حرب السنوات الثمان مع ايران ليخرج في النهاية مصاب بالعجز والإحباط "لربما نجا والدي من تلك التجربة المريرة، وما تلتها من معارك أخرى شارك فيها، ولكنها خلفت بداخله رهاب الموت قتلا. ولكي يتغلب على ذلك الرهاب، لجأ الى التدخين ومعاقرة الخمر ولازمته تلك الخصلة، الى آخر يوم من عمره".ص29 هنا تبدء رحلة البحث عن الذات، والتي تدفع حسن لاتخاذ قرار الهجرة والسفر الى المانيا للحاق بصديقه سلام الذي سبقه الى هناك دون أن يعلم بذلك حتى هاتفه ذات يوم معاتبا إياه عن عدم حضور مجلس العزاء. وما بين السرد عن رحلة الهجرة التي لم تكتمل، والعودة الى بغداد، يبدء مسار السرد يتخذ منحى آخر بالعودة الى الماضي ليعرفنا السارد كيف وصل به الحال الى ما وصل اليه، وكيف تحول الشاب الجامعي الهادئ الى شخص يحمل "ضميرا مثقلا بسفك أرواح بريئة عديدة؟! بلا أدنى إشراقة أمل". إن هذا التحول الذي يجعل حسن يشعر بالإغتراب في مجتمع دفعه الى أن يكون على ماهو عليه، لم يكن غير نتاج الصدفة التي جعلت امه واخيه يسقطان ضحية تفجير إنتحاري وسط سوق شعبي، صدفة ناتجة عن وجود الأم وابنها في المكان غير المناسب بالوقت غير المناسب، ولكنها ليست من تلك الصدف الغريبة في مجتمع الف سماع العشرات من القصص المماثلة التي تعبر عنه طبيعة الحياة التي عاشها العراقيون طيلة ما يقارب العقدين من الزمن فالعالم يشهد مليارات الصدف كل ثانية كما يشير الروائي ميلان كونديرا. ولكن الصدفة تتكرر بشكل مشابه حين يقع الأب ضحية مهاجمة مسلحين لمحل بيع الخمور اثناء وقوفه قرب المحل لشراء ما يحتاجه، ليصاب بإطلاقة في كبده تؤدي بحياته. صدفتان تتكرران على العائلة نفسها لتؤدي بالأب والأم والابن الصغير على يد جماعتين مختلفتين بالرؤى والاتجاهات والمعتقد لكنهما تتفقان على القتل المجاني، وتنفيذ رغباتهما بقوة السلاح مهما كانت الخسائر الناجمة عن ذلك وبالغالب تكون ازهاق أرواح بريئة ليست ذات علاقة بالصراع الجاري في البلد. وإذا كان مقتل الأب يدفع بصراع الوجود الى المقدمة في حياة حسن، فأن مقتل الأم والأخ، الذي سبقه، يدفعه لصراع الرغبة بالإنتقام والثأر، ممن يعتقد إن له علاقة بذلك الصراع الطائفي السياسي الذي اودى بحياة الكثيرين فينتمي الى جماعة مسلحة، ويدمن على القتل وتنفيذ عمليات الإعدام بمن يجلب اليه تحت عنوان "تعقب العملاء للمحتل، والتكفيريين وتصفيتهم" ص69، فهو يؤمن بما يقوله ابن عمته منتظر الذي يقود المجموعة المسلحة "نحن أصحاب الدليل، أينما مال نميل، لا نأخذ على الظنة، ولا نستهدف غير قوات الاحتلال والإرهابيين الذين ينوون إشعال الفتنة الطائفية". هذا الأمر الذي اصبح راسخا في ذهنه حتى حدوث المصادفة الثالثة التي تقلب اليقين الى الشك، ويبدء صراع الذات. بعد أن ينفذ حسن عملية القتل بمترجم يعمل مع الاميركان يتهم بأنه المسبب بقتل احد عناصر المجموعة، رغم إنكاره ذلك وتأكيده بأنه ترك العمل مع الاميركان لشكهم به، يكتشف إن من قتله هو ايبن عم صديقه المقرب (سلام) وأن ما قاله هو الحقيقة، ولكن هناك من غرر بهم وخدعهم وهذا لم يكن غير رجل دين يقود مجموعة أخرى وفي الوقت نفسه يتعاون مع مترجم للاميركان هو الفاعل الحقيقي. هذه المصادفة تتحول الى عذاب بعدما اكتشف انه ارتكب "خطأ لا يمكن تصحيحه او الإعتذار عنه" ص93 ليصبح تساؤل ينهش ضميره بلا شفقة"كم كان عدد الأبرياء، من بين الذين قتلهم؟". أن صحوة الضمير هذه لا تمنعه من العودة مرة أخرى لرفقة ابن عمته منتظر الذي انفصل عنه ولكن هذه المرة الى مكان آخر هو سوريا بهدف "الدفاع عن مرقد السيدة زينب"، ولكنه يعني أن ذلك "لربما كان تأثير ما يسمى بحمى السلاح، ما يزال متجذرا فينا، وكأننا أدمنا الحروب والفناها". ص116 . ومع ما يحدث في سوريا من صراع ومعارك وتداخل الخنادق تحدث الصدفة الرابعة في مسار السرد حين يعثر حسن على مذكرات فتاة سورية بعدما اخذ من بيت مهجور مكانا يخلوا فيه الى نفسه بعيدا عن مجموعته التي يقاتل فيها. هذه المذكرات التي تجعله ملتصقا بفتاة لا يعرف عنها الا الكلمات التي كتبتها واسمها الذي خطته على جلاد كتاب "ديما سلامة دياب". جذبته المذكرات وما جاء فيها، منحته شعورا لم يشعر به من قبل "شعرت فجأة بتوقد شيء ما، في داخلي، يتخطى الفضول لمعرفة مصير تلك الفتاة.شعرت برغبة ذلك النمر المأسور منذ سبعة أعوام، لينعتق من سجنه" ص.129 تحول خيال ديمة الى هوس استحوذ عليه حتى بعد عودته الى العراق مثقلا بالحزن بعدما قتل ابن عمته منتظر نتيجة انفجار قذيفة هاون قبل يومين من عودته لعائلته. لتكون هذه آخر معاركه "فقد ودعت سلاحي الى الابد بعد أن اثخنتني الحروب بالجراح ونزفت آخر عزيز عندي" ص130. لقد استزف حسن حياته بالمشاركة في صراع لم يحصل فيه الا على مزيدا من الخسارات "بينما حصد السياسيون من الفريقيين ثمار صراعنا واقتتالنا". لم يكن طريق الهجرة الى المانيا سهلا، ولكنه كان يحمل الصدفة الخامسة التي تغير مسار حياة حسن، اذ انه يجد نفسه وجها لوجه امام (ديما) تلك الفتاة التي هام بها في خياله وهي كلمات على الورق واذا بها تتجسد امامه كائنا حيا حقيقيا يشاركه المسير نحو بلاد الغربة بحثا عن ملاذ آمن بعدما أصبحت الأوطان لا تلبي متطلباتهم وهي غارقة في صراعاتها وسطوة السلاح ومغانم السياسيين. هناك في مقدونيا وعند احد المخافر كانت ديما تنتظر حسن الذي لم يتردد في تعريف نفسه لها وقراره بأن يكون ملاكها الحارس حتى تصل الى المكان الذي تريد، ولكن الأمر يتحول الى شيء آخر حينما يتزوجان ويقرران العودة الى تركيا. هناك تموت ديما متأثرة بحادث عرضي، ليعود حسن في نهاية المطاف الى بغداد "على أمل أن تمنحني الحياة فرصة لنسيان قائمة أحزاني وتنهي هزائمي، او على الأقل ترجئها الى وقت آخر".ص162 وهنا فأن السارد يشعر بأنه خسر قضيته الأولى (الفرد) لكنه لم يفقد الأمل بأن تكون القضية الثانية(استمرار الوجود) تعويضا مناسبا عن الأحزان والهزائم المتكرر، وهذا يمكن تحقيقه بزواجه من فاطمة ابنة عمته الصغيرة. واذا كان الأب يمثل موضوع الشباب العراقي بعد حرب الثمان سنوات مع ايران، فان حسن يصبح ممثلا لموضوع الشباب العراقي بعد 2003. ولكن الاب كان هاربا من القتل خائفا منه، لم يجد مفرا من الالتجاء الى نفسه ومحاولة النسيان بالادمان على الكحول. اما حسن فقد التجأ الى القتل، في محاولة لتحقيق الثأر، فيصبح جزء من حياته، قبل ان يجد ان القتل لم ينتج الا خسائر متكررة فيقرر الهرب منه باللجوء المكاني (الهجرة) ولما يعجز عن الوصول الى اوروبا، يحاول أن يحصل على الاستقرار باللجوء الى العائلة، سواء بالزواج من ديما وتبني طفلها والاستقرار في تركيا، او العودة الى بغداد بعد موت حبيبته، والزواج من ابنة عمه. ورغم تعدد المصادفات التي تؤثر في حياة حسن الخاصة الا اننا لا نشعر بان هناك انقطاع بتدفق السرد، بل تبدوا تلك المصادفات المتعددة (عدا لقائه بديما) منطقية وممكنة الحدوث في ظل الاحداث الواقعية التي شهدها العراق، وبذلك فأن الروي يحافظ على انسيابيته وتماسكه. لقد قدم الروائي تحسي علي كريدي عملا يستحق الوقوف عليه، لأنه يوثق لمرحلة مهمة وخطيرة من تاريخ العراق ويمثل مسار حياة بطل الرواية ترجمة لما وقع فيه العديد من شباب العراق من انزلاق في هوة الصراع الطائفي ومن ثم عودة الوعي ومحاولة تحقيق الذات بالرجوع الى تحقيق استمرارية الوجود عبر الانتماء للعائلة الأكبر. وعبر تتبع مسار السرد يمكن ان نعيد ترتيب مسار الحكاية مجددا عبر الآتي : مقتل ام حسن واخيه بانفجار إرهابي ــ حسن ينظّم الى جماعة مسلحة يقودها ابن عمته منتظر ــ يمارس حسن القتل انتقاما ــــ يكتشف انه قتل شخصا بريئا فيقرر التوقف ــــ يعود الى الجامعة حتى يتخرج ــ يقرر الالتحاق بالمقاتلين في سوريا بناء طلب منتظر ــ يعثر على مذكرات فتاة سورية اسمها ديما دياب ــ يهيم بفتاة المذكرات ــ يقرر العودة الى العراق ــ يقتل ابوه باطلاق نار على محل مشروبات ــــ يقرر الهجرة الى المانيا ـــــــ في طريق الهجرة يقابل ديما الحقيقية ــــ يتزوجها ــــ يعود الى تركيا ــــــــــــ تموت ديما ـــــــــــ يعود الى العراق ــــــــ يتزوج فاطمة بنت عمته. هذا المسار السردي يتوزع على فصول الرواية بين تقديم وتأخير، حيث يعمل الكاتب على بناء خطابه من خلال سرد يعتمد التداعي الحر، حيث تأتي اغلب الاحداث على لسان (حسن نفسه) وبعضها على لسان آخرين حسب ما تقتضي متطلبات الخطاب السردي، رغم أن السرد بشكل عام يأتي بواقع الصوت الواحد حيث يغيب الآخر بشكل شبه تام . وبشكل عام نجح الكاتب في تجميع بعض الأحداث التي شهدها العراق وبعض ما شهدته سوريا لتقديمها بشخص حسن الذي تتوالى الصدف لتشكل نمط حياته، الذي شهد تحولات وتقلبات لا يجد لها حلا في النهاية الا بالعودة للعائلة الأكبر، بعدما خسر عائلته الصغيرة. وهنا تذوب(الأنا) الممثلة للفرد (حسن) لصالح الجماعة (الهم) المتمثلة بالعائلة حيث يصبح الهدف انجاب وريث يحمل اسم العائلة لجيل آخر وبالتالي فأنه يرمز الى استمرارية الحياة عبر الاستقرار. وفي الختام لا نجد الا أن تقول أن الكاتب حملّ روايته إشكالية طرحها في ثنايا السرد تتمثل بالتساؤلات "لماذا نرغب بإقصاء بعضنا البعض عن هذا العالم، ونحن مغادرون لا محالة؟هل نحن من يقرر من الذي يستحق ومن لا يستحق، مزاحمتنا على هذا الكوكب الكبير؟ هل تتوارث جيناتنا الرغبة في القتل منذ عهد قابيل وهابيل؟". تساؤلات تبقى مطروحة امام المتلقي للإجابة عنها بعيدا عن الرؤى المجتمعية والسياسية السائدة والتي تطوقنا من كلّ جانب.
مشاركة :