أصبح النظام التجاري متعدد الأطراف على المحك بعد إخفاق الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية في الاتفاق على وضع أول نص على طاولة اجتماع وزراء تجارة الدول الأعضاء في بالي الإندونيسية الأسبوع المقبل. وبعد 11 عاما من المفاوضات الصعبة، جرت 150 ساعة منها خلال 25 يوماً من الشهر الحالي، تمكن متفاوضو 159 دولة من الوصول إلى خط النهاية في سباق الماراثون، إلَّا ياردة واحدة نكصوا عن قطعها طبقاً لما أدلى به المدير العام للمنظمة في إعلانه عن فشل المفاوضات. وأكد روبرتو آزفيدو أن الإخفاق لا يتعلق بضيق الوقت، فحتى لو كان أمام المتفاوضين بضعة أسابيع أخرى، لبقيت الخلافات، فالأمر يحتاج إلى إرادة سياسية يعقبها قرار سياسي، وجرت المفاوضات حول ثلاثة ملفات، هي تيسير التجارة، والزراعة، والتنمية. وينظر إلى هذه المفاوضات على أنها الحجر الأساس لصفقة مفاوضات بالي، حيث تستهدف تسهيل وتسريع الإجراءات الجمركية بتوحيد القوانين والأنظمة والإجراءات الجمركية للدول الأعضاء بما في ذلك ألوان الاستمارات والوثائق المتعلقة بالإخراج الجمركي. وخلال المفاوضات، كانت الدول الصناعية الغربية الأكثر حماساً واندفاعاً لإبرام الاتفاقية، في حين أبدت البلدان النامية، وإن لم تكن جميعها تخشى مِن زيادة وارداتها بدلاً من الصادرات، وفقدانها الموارد، وتحملها تكاليف عالية لملاءمة أنظمتها الجمركية مع متطلبات الاتفاقية، كتغيير القوانين والتشريعات، وتبني الوسائل الحديثة في الإخراج الجمركي "أجهزة الحاسوب، الكفاءة في اللغة، المهارات الوظيفية". وانفردت هذه الاتفاقية بين الاتفاقيات الأخرى بضمِّها أكبر عدد من الفقرات والكلمات المحصورة بين الأقواس التي تُشير إلى خلافات، لكن على الرغم من ذلك، تم خلال الأسابيع الأخيرة تقليص عدد الأقواس من نحو ألف إلى 65. وطبقا للمدير التنفيذي لمركز التجارة العالمي فمن شأن اتفاقية تيسير التجارة أن تقلص تكاليف التجارة العالمية بنسبة 10 في المائة كمتوسط عام، وأن تعطي الاقتصاد العالمي تريليونا من الدولارات، وتخلق 21 مليون فرصة عمل، 18 مليونا منها في الدول النامية. وعلمت "الاقتصادية" أنَّ المتفاوضين تمكنوا من إزالة أحد أكبر العقبات وأكثرها أهمية في اتفاقية تيسير التجارة بعد تسع ساعات من المفاوضات يوم 24 تشرين الثاني (نوفمبر)، وذلك بالاتفاق على صيغة نهائية تتعلق بالمعاملة الخاصة التي طلبتها الدول الأقل نمواً، خاصة ما يتعلق بالبنود المُلزمة، لكن عندما انتهت المفاوضات في وقت مبكر من يوم 25، أشار مسؤولون إلى أنه بقيت هناك أكثر من 60 فقرة في مسودة النص محصورة بين أقواس. وكانت الهند، في الواقع، أحد أشد المناوئين لاتفاقية توحيد الإجراءات الجمركية، حيث انصبت اعتراضاتها على لغة المسودة خاصة الفقرة المتعلقة بـ "ضوابط العقوبات" التي تمنح الدول الأعضاء فترة محدودة تتمكن في نهايتها مِن اتخاذ إجراءات قد تؤدي إلى فرض عقوبات ضد الدولة التي تخرق "قانون الجمارك العالمي" أو الأنظمة ذات العلاقة، واحتجت نيودلهي بأنَّ تشريعاتها الوطنية تمنعها من الموافقة على أي قانون غير القانون المحلي الذي يتعلق بالانتهاكات الجمركية، وقد ردت بعض الوفود "أبدلوا قوانينكم". وظهرت خلافات جديدة أيضاً حول اقتراح للولايات المتحدة يتعلق بالشحنات عاجلة التسليم، وهي قضية ذات اهتمام بالغ للولايات المتحدة التي ضغطت بشدة خلال المفاوضات نيابة عن شركاتها المتخصصة بالتوصيل السريع للبريد والشحنات مثل "فيدكس" و"يو بي إس". ودعت لغة المسودة الأصلية للاتفاقية، المكونة من 53 صفحة، الدول الأعضاء إلى اعتماد، أو الحفاظ على الإجراءات الراهنة التي تسمح بالإفراج السريع والعاجل للبضائع والشحنات التي تدخل عن طريق مرافق الشحن الجوي. وسعت الولايات المتحدة إلى ترسيخ فقرات في الاتفاقية من شأنها أن تلغي العودة إلى المراجع الجمركية، والقيود المفروضة على وزن الشحنات، وإجراءات تقدير قيمتها، وكل ما يعوق خروجها السريع. إلا أن قضايا أخرى لم تجد حلاً يتعلق باقتراح من الولايات المتحدة يقضي بإلغاء دور وسطاء ومستشاري الجمارك، ما أثار قلق البلدان النامية، فمصر، على سبيل المثال، التي تكسب مئات الملايين من الدولارات عن أجور الوسطاء والاستشارة الجمركية، سعت خلال المفاوضات إلى إزالة العبارات التي تُحظر عمل وسطاء الجمارك والمكاتب الاستشارية للجمارك، وفرض الرسوم أو النفقات ذات الصلة. ويتطلب تنفيذ اتفاقية تيسير التجارة تقديم مساعدات تقنية ومالية من بلدان الشمال إلى الجنوب، وقد ظهرت خلافات متشعبة حول هذا الموضوع، وترغب البلدان النامية في الحصول على "فترة انتقالية"، حسب التعبير الذي تستخدمه في الاجتماعات، أو"فترة إعفاء" أو "فترة سماح"، حسب التعبير الذي تستخدمه الدول الصناعية تتلاءم مع قدراتها لتنفيذ الاتفاقية. ودعت إلى ربط تنفيذ التزاماتها بالمعونة. اقترحت أيضاً إنشاء فريق مختصين يدرس تطبيق جدول زمني للامتثال للاتفاقية. واقترحت "مجموعة الـ 33 التي تضم حاليا 46 بلداً نامياً، وتقودها الهند إعادة النظر بقواعد منظمة التجارة بطريقة تسمح لها بتأسيس احتياطي غذائي، لكن هذا التأسيس يعني بالضرورة إعفاءها من أحكام المنظمة المتعلقة بتحريم الدعم الحكومي للزراعة. ويتضمن مفهوم الاحتياطي الغذائي، الذي كان أحد أهم أسباب انهيار المفاوضات، السماح للدول النامية بشراء الأرز، والحنطة، وأنواع أخرى من الحبوب من الفلاحين الفقراء بأسعار أعلى من أسعار السوق ليتم إعادة بيعها للمستهلكين الفقراء بأسعار أدنى. ودعت الهند السماح لها بتخصيص 20 مليار دولار لبرنامج الاحتياطي الغذائي. وكانت الهند، في الواقع، رأس الحربة في هذا الملف من أجل القضاء على الفقر في بلادها التي ستصبح قريباً الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم، وأشار مندوب الهند خلال المفاوضات إلى أن بلاده بحاجة إلى هذا الاستثناء، لأن قانونها الجديد للأمن الغذائي ينص على توفير الأغذية المدعومة لما يقرب من ثلثي سكانها. وأبدت الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وباكستان أيضاً، مخاوف من أن يتم بيع أرصدة الاحتياطي الغذائي في الأسواق، ما يسفر عن تشوهات في الأسعار، الذي تحاربه منظمة التجارة، ولهذا السبب وحده أعلنت هذه الدول رفضها إجراء أي تعديل على مبادئ الصندوق الأخضر، الذي يحظر الدعم الحكومي في الزراعة. وظهر حل وسط باقتراح "بنود سلام"، وهو مصطلح تفاوضي يقضي بالوصول إلى تسوية وسط عند تمسك كل طرف بموقفه، وقد حددت هذه البنود أربع سنوات يتم خلالها إبعاد برنامج الأمن الغذائي عن أي نقاش، على أن يتم طرح الموضوع أمام هيئة تسوية المنازعات بعد السنوات الأربع، ليكون حكمها حينذاك بمثابة اتفاق نهائي، وقد رفضت الهند ودول نامية أخرى المقترح واصفة إياه بـ "هدية مسمومة". ومِن المقترحات الأخرى، طلبت البرازيل باسم مجموعة العشرين التي تضم البلدان الناشئة والمصدرة للمنتجات الزراعية أن تُقلِّص البلدان الصناعية الغنية بمقدار النصف معوناتها التي تقدمها لمصدري المنتجات الزراعية، حيث احتارت الدول المتقدمة، التي تتحدث باسمها الولايات المتحدة، واليابان، والنرويج، في كيفية الرد على المقترح، ولم تتمكن من رفضه ولا قبوله. وظهرت "بنود سلام" جديدة تقدمت بها أستراليا، ونيوزلندا، وإندونيسيا، كانت بمثابة طوق نجاة للدول الصناعية، ويقضي المقترح أن تقدم الدول الصناعية تعهداً غير مُلزم بإلغاء الإعانات، مثلما فعلت في عام 2005 خلال مؤتمر هونج كونج، وقد رفضت الدول النامية المقترح، متسائلة ما قيمة تعهد لا يتم الالتزام به؟ وإذا كانت الدول الصناعية تتعهد بالالتزام بهذا التعهد، لماذا لم تلتزم بتعهد مؤتمر هونج كونج؟ وأوضح سفير الأرجنتين، ألبرتو دو ألوتو، لـ "الاقتصادية"، أن المشكلة في المفاوضات هو وجود صفقة غير متوازنة تقوم بموجبها للدول الغنية في إجبار الدول الأعضاء الأخرى على قبول فقرات مُلزِمة في مجال تيسير التجارة، في حين هي ترفض قبول فقرات ملزمة حول قضايا تهم الدول النامية، كتقليص معونات الصادرات الزراعية.
مشاركة :