تحكي لنا مجالس الرواة وكبار السن.. كيف بدت ملامح التغير الاجتماعي في دولة الإمارات.. وكيف تعايش الأجداد والآباء مع وسائل الاتصال والتكنولوجيا، بل كيف تعاملوا مع المدينة الحديثة بقصورها وأبراجها ورغد عيشها الاقتصادي، الذي واكب اكتشاف حقول البترول وطفرة النفط التي جذبت أكبر شركات التنقيب عن النفط، ونقلت لمجتمع الإمارات صورة من صور المدنية الحديثة التي تجاوزها المجتمع الآن، بعد أربعة عقود وأصبحت من حديث الماضي البعيد. كان أهالي الإمارات في الستينات على بساطة عيشهم وضعف مواردهم وكثرة معاناتهم يستشرفون نهضة اقتصادية واجتماعية، ولعلهم أدركوا جزءاً منها في نهاية ذلك العقد، عندما تولى مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي المؤسس الكبير الراحل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حيث لاحت في الأفق بعض الطرق الترابية وبنيت بعض المقار الحكومية وظهرت ثمَّة سيارات في الطرق. في بداية السبعينات بدأ التغير الاجتماعي على استحياء وفي الثاني من مارس/آذار عام 1973 أعلن المؤسس أرقام الميزانية الجديدة للدولة، وقد قدرت مصروفات حكومة الاتحاد خلال العام المالي 1973 بنحو 51 مليون دينار بحريني، ويمثل هذا المبلغ حوالي ثلاثة أضعاف مصروفات الاتحاد في عام 1972 وهو العام الأول من عمر دولة الاتحاد وخصص جزء كبير من مبلغ الميزانية لتنفيذ مشاريع التنمية والخدمات الصحية والتعليمية وبناء ألف و700 مسكن شعبي. وفي أواخر عام 1973 قفزت أسعار النفط بعد حرب أكتوبر إلى أعلى مستوى في تلك الفترة، تزامنت معها بدايات نشاط البنوك في الدولة، والذي أسهم وبدرجة كبيرة في النقلة الاجتماعية والديموغرافية لمجتمع الإمارات وبزيادة عدد السكان والمساكن في المدن الكبرى، حيث بدأت ظاهرة الهجرة والاستقرار في المدن الكبرى، وعرف شباب ذلك الجيل ضرورة العمل، وبدأوا الالتحاق بالأعمال الحكومية ناهيك عن الالتحاق بالجامعات الكبرى التي تزامنت هي الأخرى مع طفرة المعاهد والبعثات الخارجية. كما أدرك عامة الناس في أواخر هذا العقد طفرة المنح في الأراضي وتخطيط المدن، وظهر في أواخره بعض السيارات المكيفة وأمور أخرى مازال أبناء ذلك العقد يتذكرونها جيداً. وشعر الناس بباكورة النهضة المدنية والاجتماعية وتابعوا عن كثب سلسلة التنظيمات الإدارية في القطاعين الحكومي والخاص، بل إنهم تعايشوا مع نظم الاقتصاد الحديث وشاهدوا بأم أعينهم الطائرات الصغيرة، وهي تهبط وتقلع فوق المدارج الترابية، كما تعاملوا مع البنوك التجارية والماركات المستوردة وفتحوا المحال التجارية وطلبوا وكالات السلع المستوردة بل وتابع الأهالي حينها المنجزات الحكومية والأخبار المحلية فقط، عبر وسائل الإعلام، كما توسد كبار السن أجهزة المذياع الخشبية الكبيرة، ورضيت نساء ذلك الزمان بالولادة في مستشفيات الولادة في الوقت الذي غادرت البلاد طلائع البعثات الدراسية إلى مصر وبعض البلاد الأوروبية. وما إن بدأ عصر الثمانينات إلّا وبدت - لا سيما في المدن الكبرى - بحبوحة العيش وظهرت معالم التمدين والتحضر جلية فبرزت المباني المسلحة - البنايات - آنذاك في كل من أبوظبي ودبي والشارقة، وعرف الناس حينها أخبار العالم، ومن حولهم من الدول العربية لاسيما بعد الانتشار الواسع لوسائل الإعلام، وظهور جيل جديد من الدارسين والمتعلمين. وفي التسعينات.. خرج أهالي الإمارات من صدمة أتون حرب الخليج الثانية إلى عالم اتصالي تقني جديد تمثل في ظهور القنوات الفضائية وبزوغ نجم الإنترنت، ومن ثمّ الهواتف الرقمية. وبدت الألفية الجديدة تمثل نقلة فارقة في ميادين التغير الاجتماعي وأصبح مصطلحا العولمة والعالم المفتوح واقعين يتعايش معهما أبناء الألفية في قراءاتهم ومشاهداتهم التي عبرت عن صدق النظريات الإعلامية حين توقعت أن يصبح العالم في مقبل أيامه قرية كونية صغيرة، فما يشاهد هنا سوف يشاهد هناك، وما يعيشه بعض الناس في أصقاع المعمورة سيراه ويتعايش معه الجميع، لاسيما أن أدوات بل منجزات التقنية الحديثة أسهمت ومازالت تسهم في بناء القرية العالمية التي يتربع أبناء الإمارات على مقاعد السبق في عالمها الجديد، المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية التي تشهد إحصائياتها على حجم الزخم والفارق الذي تقدم به أبناء الإمارات على كثير من نظرائهم في الدول الأخرى. واستحدثت دبي مدينة الإنترنت التي تضم جميع الشركات العالمية المختصة بشؤون التقنية المعلوماتية وبدأت بإنشاء أول حكومة إلكترونية في العالم العربي وأول مدينة جامعية على الإنترنت والمدينة الإعلامية التي غدت قطباً رئيسياً للوسائل الإعلامية كافة، وإنشاء مناطق حديثة على امتداد شارع الشيخ زايد بن سلطان وبرج العرب، إضافة إلى إنشاء البرج العملاق والذي أطلق عليه برج خليفة الذي يعد مفخرة لجميع العرب ومزاراً سياحياً لكل العالم. وتشير دلائل كثيرة إلى أن الإمارات كسبت الرهان وحققت في مدة وجيزة نقلة نوعية بوأتها مكانة مهمة عالمياً، وجعلتها من أهم بلدان العالم لا من حيث كونها إحدى أهم الدول النفطية بل من حيث المشاريع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي تتبناها، وتسعى إلى تحقيقها وهي مشاريع تؤكد النهضة التي تعيشها الإمارات بعد 43 عاماً، من انطلاق مسيرتها، وتعكس رؤية مستقبلية وقيادة حكيمة سخّرت كل السبل من أجل بناء منظومة إماراتية تعطي صورة مشرفة لإحدى أهم الدول النفطية في الخليج والعالم. ووضع حجر أساس هذا الدرب المؤسس الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي أوصى أبناءه الإماراتيين بأن يهتموا بالتعليم كقيمة أساسية للعمران البشري، حيث قال إن أكبر استثمار للمال هو استثماره في بناء أجيال من المتعلمين والمثقفين. ورغم وفاة الشيخ زايد عام 2004 بعد أكثر من 30 عاماً رئيساً للدولة إلّا أن عملية النمو استمرت تحت قيادة ابنه وخليفته صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، وكذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وكل حكام الإمارات السبع ليصلوا اليوم إلى تحقيق نسبة أمية بأقل من واحد في المئة. ما كان التغيير ليتحقق في دولة الإمارات لولا نجاح الحكومة الإماراتية في الإمساك بالشروط الثلاثة الأساسية لبناء مجتمع متماسك ومتقدم حضارياً وفكرياً وهذه الشروط هي: النظام القيمي والنظام الاجتماعي والإنسان باعتباره عصب عملية التغيير وعصب التوازن بين النظامين السابقين، وهو في الوقت نفسه المستثمر ومجال الاستثمار الأهم. وتثبت نجاح هذه المعادلة التقارير العالمية التي تصنف الإمارات في مراتب متقدمة في مؤشرات التنمية البشرية والمرتبة الأولى عربياً في مؤشرات الابتكار والسعادة وجودة الحياة وممارسة الأعمال، وكذلك الأولى عالمياً في التماسك الاجتماعي والكفاءة الحكومية وحسن إدارة الأموال العامة، والثقة في الحكومة وفي متانة الاقتصاد. وتحققت هذه المكاسب نظراً لأن عملية التغيير في الإمارات سارت بالتوازي عمرانياً وتعليمياً واقتصادياً واجتماعياً وقد نجح الإماراتيون في تحقيق هذه المعادلة الجامعة وحققوا على أرض الواقع إنجازات بمقاييس عالية حازت شهادات عالمية. كان المواطن الإماراتي عضداً أساسياً في مسيرة التنمية وهو اليوم يحتفل بالإنجازات الضخمة التي تتحقق سنة بعد أخرى، ويقف وقفة تحية وإجلال واعتراف بالجميل لكل من أسهم في الوصول بالإمارات لتحتل المركز الثاني عشر في تقرير التنافسية العالمي دافوس لعام 2014- 2015، وتتفوق على دول كالدنمارك وكندا وكوريا الجنوبية في إحراز مراكز عالمية متقدمة في العديد من المؤشرات. في ذات السياق أكد تقرير التنافسية العالمي على الدور الريادي لدولة الإمارات في المنطقة وعزا الفضل في تحسن التقييم الممنوح لها إلى عدة عوامل من بينها الفوز باستضافة معرض إكسبو- 2020 لأول مرة في منطقة الشرق الأوسط واعتماد الدولة العديد من المبادرات الاستراتيجية لتحسين مستوى التنافسية، وعلى مختلف الصعد، كما أكد التقرير على أن هذه الجهود تؤتي بالفعل الثمار المرجوة منها خاصة على مستوى الأطر المؤسساتية والبنية التحتية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي شهدت جميعها تحسناً قوياً خلال السنوات القليلة الماضية. وفي سياق متصل تتوالى الشهادات الصادرة عن وكالات التصنيف الدولية لتؤكد المؤشرات الإيجابية للتجربة التنموية الإماراتية على مختلف أصعدتها فقد تبوأت دولة الإمارات المرتبة الأولى بين دول الشرق الأوسط وال 36 عالمياً من حيث أدائها الشامل لعام 2014 في مؤشر الابتكار العالمي الذي أصدرته جامعة كورنيل والمعهد الأوروبي لإدارة الأعمال انسياد والمنظمة العالمية للملكية الفكرية. كما اختارت المنظمة العاصمة أبوظبي عاصمة للابتكار العربي بعد أن تبوأت المركز الأول بين العواصم العربية حيث سجلت 76 اختراعاً دولياً خلال الفترة من منتصف عام 2010 إلى منتصف عام 2014. وتسعى دولة الإمارات في هذا المجال إلى إطلاق أول مسبار عربي إسلامي إلى كوكب المريخ تحت إشراف فريق عمل وطني، بعد أن أعلنت في مبادرة استراتيجية أطلقها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، خلال شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي دخولها تكنولوجيا ارتياد الفضاء وإنشاء وكالة الإمارات للفضاء. (وام)
مشاركة :