الحق أنني توقفت بل تسمرت أمام ما قرأت عن فن «التوريق» في البلاغة العربية!، لقد أعادتني الكلمة الى ما كنا نفعله في حقول الذرة، من تنسيق للأعواد وبعضها «الخف» وما نفعله في العود الواحد حيث كثافة الأوراق تحول دون نضج الثمرة «الكوز»!أما سر الدهشة فهو تشابه «التوريق» زراعة وفناً حد التطابق، والتنسيق قاسم مشترك!. كان الناقد الدكتور محسن محمد عطية، يربط في العمل الفني بين الأشكال والألوان والخطوط والتفريعات النباتية، وصولاً الى هيئة توريقية، لافتاً الى أنه من صفات «التوريق العربي» النمو والتكاثر، وكنت أتذكر صديقي الفلاح المبدع محمود محمد عطية، وهو يشدد على ضرورة «توريق الذرة»، جاعلاً الأعواد كلها تتنفس بطريقة طبيعية وجمالية، بحيث يضيء حقل الذرة نهاراً بفعل الشمس الساقطة على «الشرابة» ثم «الكدابة» قبل أن يصبح كوز الذرة مليئاً بالحب -بفتح الحاء-، كما يضيء الحقل ليلاً بفعل ضوء القمر، الباعث على البهجة والخيال، والاحساس بالجمال والحب -بضم الحاء-! على أن الأديب الناقد، بدا أمامي، كما لو كان يكمل شرح الفلاح المبدع، اذ تتداخل المربعات مع بعضها وتتعاشق في روعة مؤثرة وبديعة.. وفي هذه الحالة «تبدو الخطوط في الأسلوب متدفقة، ومندفعة، فتضم بين فروعها عنصراً روحياً هائماً.. ثم تتباعد الفروع ثم تعود فتتجمع، حيث يلزم مهمة «التوريق»، عمليات رياضية، في جوهرها معانٍ روحية، تشعرنا بفورة الحياة في حركتها ونموها المضطرد!.وحين كان الناقد ينتقل للحديث عن الزخارف النباتية، التي تحقق مبدأ تقدير العقلية الرياضية والاهتمام بعلم الأرقام، كنت أتذكر كيف كان أبي وهو المعلم الشاعر، يخط للمزارعين بالقلم على بلاط براندتنا البحرية، مساحة كل قصبة، وعدد خطوط الذرة في كل واحدة منها، وكذا عدد الأعواد في كل خط، فاذا زادت عن المعدل المطلوب كان من الضروري الإسراع بخف الأعواد مبكراً «اي خلع بعضها» واتاحة فرصة النمو للأعواد الباقية، فضلا عن ضرورة عملية «التوريق» المتزن دون جور، والتي كنا نظن أن الهدف الوحيد منها هو الاتيان بما يكفي لاطعام الماشية!ورغم أن «زرعة الذرة» كانت وما زالت في الدرجة الثالثة، بعد البطاطس والقمح، فقد استوقفني وصف أستاذي يحيي حقي لهذه الزرعة، في كتابه «خليها على الله» بمونة السنة!.لقد كان الأستاذ يتحدث عن «الذرة العويجة»، معتبراً محصولها هو خلاصة حياة الفلاح، واذا وفر لزوجته ما يكفيها منه، فليس لها أن تسأله عن شيء غيره.. من عيدانه يقيم «الأخصاص» (جمع خص، أو عش أو عشة)، ويصنع الجدران، والسقوف، ووقيد الفرن، واذا تكومت الكيزان المستديرة، ودقت على الغناء -بالعصى، ونشأ تل من الحبوب، وقف عليه الفلاح الميسور، وهو يذكر ربه وزكاته- يوزع العوايد، هذا الكوم للمعدية «مسألة خاصة بموظفي الري» وذاك للموالدي «مسألة خاصة بالموالد» وآخر لبائعة الحلوى الفقيرة، التي تجلس على رأس الحارة.. آه نسينا إنسانا آخر.. الحلاق.. إنه أقبل يهرول وفي يده كيس، وهو أكبر الأكياس في هذا اليوم! ويضيف: آخر صورة في ذهني عن غيط الذرة العويجة هي هذه البقع الدموية التي تتناثر على الأرض مستديرة كالدنانير، تنعقد فيها أشعة الشمس بعد أن تسربت بجهد بين عيدان صفر متمايلة، ما أمتع منظرها، لم أرَ للون الأحمر في غيرها مثل جماله، من أجلها أنسى لهذه العيدان ما تبعثه من أنفاس خانقة، وهاموش، وما تخبئه من مكامن البنادق شغل اليد! على أن أجمل ما قيل في الذرة، هو ما ردده شاعرنا الكبير محمد عفيفي مطر في رائعته «الجوع والقمر»: جاع الصغار، جاع الصغار، فانشق في ليل القرى ملح القبور.. هبت هياكلهم من الأرض البوار.. وتحلقوا حول القرى.. أسوار عظم في بقايا من كفن.. جاسوا خلال الدور.. ساروا في الحقول الخالية.. غنوا.. بكوا.. شقوا الجيوب البالية.. لا شيء يأكله الصغار.. فاترك عباءتك القديمة يا قمر.. واسرق لهم بعض الذرة.. بعض الذرة! صاحوا به.. هذا قمر.. رقصوا بكفيه ونادوا: ياقمر!هبنا الذرة.. هبنا الذرة!. كنت أنهي المقال، وأنا أراجع بأسى تاريخ اليوم، وكيف فاتتني جلسات «شوي الذرة وشاي الجماعة»، حيث تمت عملية «القطيع» قبل أن أتذكر حرص أخي على زراعة بضع قراريط من «الذرة الوخري» علني ألحق بها!.
مشاركة :