بقلم: عاطف الصبيحي استكمالاً للمقال السابق فإننا اجتهدنا أن نسوق أمثلة أخرى على العلاقة التأثيرية المتبادلة بين مباني الكلمات والمعاني التي تحملها تلك الكلمات في النص المقدس, حيث أننا اقتصرنا الحديث في المقال السابق على حرف واحد وهو حرف «التاء» لكن الكتاب الكريم يحمل بين دفتيه العديد من الأمثلة التي تُدلل وتبرهن على التلازم بين المبنى والمعنى. في الآية 69 من سورة الأعراف نجد الآية الكريمة «أوعجبتم أن جاءكم ذِكرٌ من ربكم على رجل منكم ليُنذركم, واذكروا إذ جعلكم خُلفاء من بعد قوم نوح, وزادكم في الخلق بصطة, فاذكروا آلاء الله لعلكم تُفلحون» ولنقرأ قوله سبحانه وتعالى في البقرة 247 «وقال لهم نبيهم إنّ الله قد بعث لكم جالوت ملكاً, قالوا أنى يكون له المُلك علينا, ونحن أحق منه, ولم يؤتَ سعة من المال, قال إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم, والله يؤتي مُلكه من يشاء والله واسع عليم». الذي نلاحظه أن الخطاب في الأعراف عن قبيلة عاد قوم هود, فجاءت «البصطة» بالصاد, بينما في البقرة الحديث عن جالوت الشخص الفرد, فجاءت «بسطة» ذلك لأن مع قوم هود كقبيلة ومجموعة من الناس من الأنسب أنْ تأتي «بالصاد» ومع جالوت «بالسين» لأن الصاد أقوى وأظهر من السين. «من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناَ, فيضاعفه له أضعافاً كثيرة, والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون» 245 البقرة, هنا في هذه الآية نلاحظ أن البصط عام ومطلق, فبناء الكلمة بالصاد أنسب لمعنى المُطلق وأقوى لمعنى المصدر المُتفضل بالعطاء وأظهر من بنائها بحرف السين, فبناء «البسط» بالسين يكون لما هو أخف وأقل شاناً من هذه الآية, كقوله تعالى: «إنّ ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراَ بصيراً» 30 الإسراء. لا يحتاج الأمر هنا لكثير من التوضيح حيث التخصيص واضح من سياق الآية الكريمة, وكذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت الآية 62 «الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له, إن الله بكل شيء عليم». ما نخلص إليه أن اختيار حرف على حرف في الكلمات المتقاربة محكوم بالدلالة التي تحويها تلك الكلمة, فبناء الكلمات التي تُشير إلى العموم والإطلاق في الأمثلة السابقة جيء بحرف الصاد, والكلمات التي تدل على التبعيض والتخصيص كان حرف السين هو الأنسب. في الكهف 64 تواجهنا الآية «قال ذلك ما كنا نبغِ فارتدا على آثارهما قصصا» وفي سورة يوسف 65 نجد ما يلفت النظر «قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا رُدت إلينا». اللافت هنا حذف الياء من «نبغِ» والتعويض عنها بالكسرة, بينما بنفس الكلمة في سورة يوسف نجد حضور حرف الياء «نبتغي» ذلك لأن المقصد والبُغية في سورة الكهف لم يكن نسيان الحوت بل بغيتهم الرجل الذي ينشده موسى عليه السلام ليتعلم منه, بينما الطعام هو هدف وبُغية إخوة يوسف على وجه التحديد, أثبت الياء لوضوح الغاية, وغابت الياء لعدم حصول الغاية حتى تلك اللحظة وهو ما يُذكر في كتب التراث على أنه الخضر المعلم. أحياناً الإطالة والتفصيل في الحدث يقتضي ثبيت حرف, والقصر والاختصار يناسبه حذف نفس الحرف, ففي حديث تحويل القبلة المُطول الذي استغرق ثمانية آيات متتابعة, من الآية 142 انتهت بالآية الخمسين: «ومن حيث خرجت فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام, وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره, لئلا يكون للناس عليكم حُجة, إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأُتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون», بينما في سورة المائدة 3 «حُرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به, والمنخنقة والموقوذة والمُتردية والنطيحة وما أكل السبع, إلا ما ذكّيتم وما ذُبح على النُصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق, اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشونِ.... » آية واحدة تتحدث عن محرمات الطعام, فجاءت بناء «الخشية» بحذف الياء لما هو أليق وأنسب للسياق. «وقل يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون...» 186 البقرة, وقوله تعالى «قل لعبادِ الذين آمنوا اتقوا ربكم...» 10 الزمر. لكثرة المشمولين بالخطاب في آية البقرة أثبت حرف الياء في «عبادي» وعندما ضاقت الدائرة بالمؤمنين والمتقين حُذفت الياء من «لعبادِ». كان هذا غيض من فيض يعسُر على فرد الإحاطة بهذه اللفتات البيانية والمباني اللفظية التي يترتب عليها معان جديدة, ومن باب الأمانة العلمية فإن الأستاذ الدكتور فاضل السامرائي له مؤلفات في هذا المجال وغيره من المجالات اللغوية التي تُبهر وتُدهش القارئ, للسامرائي من الله الأجر والثواب, ومنا الاحترام والتقدير والدعاء.
مشاركة :