أثر الحرف في المعنى/2

  • 9/24/2021
  • 01:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بقلم‭: ‬عاطف‭ ‬الصبيحي استكمالاً‭ ‬للمقال‭ ‬السابق‭ ‬فإننا‭ ‬اجتهدنا‭ ‬أن‭ ‬نسوق‭ ‬أمثلة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬العلاقة‭ ‬التأثيرية‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬مباني‭ ‬الكلمات‭ ‬والمعاني‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬تلك‭ ‬الكلمات‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬المقدس‭,‬‭ ‬حيث‭ ‬أننا‭ ‬اقتصرنا‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬السابق‭ ‬على‭ ‬حرف‭ ‬واحد‭ ‬وهو‭ ‬حرف‭ ‬‮«‬التاء‮»‬‭ ‬لكن‭ ‬الكتاب‭ ‬الكريم‭ ‬يحمل‭ ‬بين‭ ‬دفتيه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬التي‭ ‬تُدلل‭ ‬وتبرهن‭ ‬على‭ ‬التلازم‭ ‬بين‭ ‬المبنى‭ ‬والمعنى‭.‬ في‭ ‬الآية‭ ‬69‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬الأعراف‭ ‬نجد‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬‮«‬أوعجبتم‭ ‬أن‭ ‬جاءكم‭ ‬ذِكرٌ‭ ‬من‭ ‬ربكم‭ ‬على‭ ‬رجل‭ ‬منكم‭ ‬ليُنذركم‭,‬‭ ‬واذكروا‭ ‬إذ‭ ‬جعلكم‭ ‬خُلفاء‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬قوم‭ ‬نوح‭,‬‭ ‬وزادكم‭ ‬في‭ ‬الخلق‭ ‬بصطة‭,‬‭ ‬فاذكروا‭ ‬آلاء‭ ‬الله‭ ‬لعلكم‭ ‬تُفلحون‮»‬‭ ‬ولنقرأ‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬في‭ ‬البقرة‭ ‬247‭ ‬‮«‬وقال‭ ‬لهم‭ ‬نبيهم‭ ‬إنّ‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬بعث‭ ‬لكم‭ ‬جالوت‭ ‬ملكاً‭,‬‭ ‬قالوا‭ ‬أنى‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬المُلك‭ ‬علينا‭,‬‭ ‬ونحن‭ ‬أحق‭ ‬منه‭,‬‭ ‬ولم‭ ‬يؤتَ‭ ‬سعة‭ ‬من‭ ‬المال‭,‬‭ ‬قال‭ ‬إنّ‭ ‬الله‭ ‬اصطفاه‭ ‬عليكم‭ ‬وزاده‭ ‬بسطة‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬والجسم‭,‬‭ ‬والله‭ ‬يؤتي‭ ‬مُلكه‭ ‬من‭ ‬يشاء‭ ‬والله‭ ‬واسع‭ ‬عليم‮»‬‭. ‬الذي‭ ‬نلاحظه‭ ‬أن‭ ‬الخطاب‭ ‬في‭ ‬الأعراف‭ ‬عن‭ ‬قبيلة‭ ‬عاد‭ ‬قوم‭ ‬هود‭,‬‭ ‬فجاءت‭ ‬‮«‬البصطة‮»‬‭ ‬بالصاد‭,‬‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬البقرة‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬جالوت‭ ‬الشخص‭ ‬الفرد‭,‬‭ ‬فجاءت‭ ‬‮«‬بسطة‮»‬‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬مع‭ ‬قوم‭ ‬هود‭ ‬كقبيلة‭ ‬ومجموعة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬الأنسب‭ ‬أنْ‭ ‬تأتي‭ ‬‮«‬بالصاد‮»‬‭ ‬ومع‭ ‬جالوت‭ ‬‮«‬بالسين‮»‬‭ ‬لأن‭ ‬الصاد‭ ‬أقوى‭ ‬وأظهر‭ ‬من‭ ‬السين‭.‬ ‮«‬من‭ ‬ذا‭ ‬الذي‭ ‬يُقرض‭ ‬الله‭ ‬قرضاً‭ ‬حسناَ‭,‬‭ ‬فيضاعفه‭ ‬له‭ ‬أضعافاً‭ ‬كثيرة‭,‬‭ ‬والله‭ ‬يقبض‭ ‬ويبصط‭ ‬وإليه‭ ‬ترجعون‮»‬‭ ‬245‭ ‬البقرة‭,‬‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬البصط‭ ‬عام‭ ‬ومطلق‭,‬‭ ‬فبناء‭ ‬الكلمة‭ ‬بالصاد‭ ‬أنسب‭ ‬لمعنى‭ ‬المُطلق‭ ‬وأقوى‭ ‬لمعنى‭ ‬المصدر‭ ‬المُتفضل‭ ‬بالعطاء‭ ‬وأظهر‭ ‬من‭ ‬بنائها‭ ‬بحرف‭ ‬السين‭,‬‭ ‬فبناء‭ ‬‮«‬البسط‮»‬‭ ‬بالسين‭ ‬يكون‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬أخف‭ ‬وأقل‭ ‬شاناً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭,‬‭ ‬كقوله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬إنّ‭ ‬ربك‭ ‬يبسط‭ ‬الرزق‭ ‬لمن‭ ‬يشاء‭ ‬ويقدر‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬بعباده‭ ‬خبيراَ‭ ‬بصيراً‮»‬‭ ‬30‭ ‬الإسراء‭. ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬الأمر‭ ‬هنا‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬التوضيح‭ ‬حيث‭ ‬التخصيص‭ ‬واضح‭ ‬من‭ ‬سياق‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭,‬‭ ‬وكذلك‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬العنكبوت‭ ‬الآية‭ ‬62‭ ‬‮«‬الله‭ ‬يبسط‭ ‬الرزق‭ ‬لمن‭ ‬يشاء‭ ‬من‭ ‬عباده‭ ‬ويقدر‭ ‬له‭,‬‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭ ‬عليم‮»‬‭. ‬ما‭ ‬نخلص‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬اختيار‭ ‬حرف‭ ‬على‭ ‬حرف‭ ‬في‭ ‬الكلمات‭ ‬المتقاربة‭ ‬محكوم‭ ‬بالدلالة‭ ‬التي‭ ‬تحويها‭ ‬تلك‭ ‬الكلمة‭,‬‭ ‬فبناء‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬تُشير‭ ‬إلى‭ ‬العموم‭ ‬والإطلاق‭ ‬في‭ ‬الأمثلة‭ ‬السابقة‭ ‬جيء‭ ‬بحرف‭ ‬الصاد‭,‬‭ ‬والكلمات‭ ‬التي‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬التبعيض‭ ‬والتخصيص‭ ‬كان‭ ‬حرف‭ ‬السين‭ ‬هو‭ ‬الأنسب‭.‬ في‭ ‬الكهف‭ ‬64‭ ‬تواجهنا‭ ‬الآية‭ ‬‮«‬قال‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬نبغِ‭ ‬فارتدا‭ ‬على‭ ‬آثارهما‭ ‬قصصا‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬65‭ ‬نجد‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ ‬‮«‬قالوا‭ ‬يا‭ ‬أبانا‭ ‬ما‭ ‬نبغي‭ ‬هذه‭ ‬بضاعتنا‭ ‬رُدت‭ ‬إلينا‮»‬‭. ‬اللافت‭ ‬هنا‭ ‬حذف‭ ‬الياء‭ ‬من‭ ‬‮«‬نبغِ‮»‬‭ ‬والتعويض‭ ‬عنها‭ ‬بالكسرة‭,‬‭ ‬بينما‭ ‬بنفس‭ ‬الكلمة‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬نجد‭ ‬حضور‭ ‬حرف‭ ‬الياء‭ ‬‮«‬نبتغي‮»‬‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬المقصد‭ ‬والبُغية‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الكهف‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نسيان‭ ‬الحوت‭  ‬بل‭ ‬بغيتهم‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬ينشده‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬ليتعلم‭ ‬منه‭,‬‭ ‬بينما‭ ‬الطعام‭ ‬هو‭ ‬هدف‭ ‬وبُغية‭ ‬إخوة‭ ‬يوسف‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭,‬‭ ‬أثبت‭ ‬الياء‭ ‬لوضوح‭ ‬الغاية‭,‬‭ ‬وغابت‭ ‬الياء‭ ‬لعدم‭ ‬حصول‭ ‬الغاية‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُذكر‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التراث‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬الخضر‭ ‬المعلم‭.‬ أحياناً‭ ‬الإطالة‭ ‬والتفصيل‭ ‬في‭ ‬الحدث‭ ‬يقتضي‭ ‬ثبيت‭ ‬حرف‭,‬‭ ‬والقصر‭ ‬والاختصار‭ ‬يناسبه‭ ‬حذف‭ ‬نفس‭ ‬الحرف‭,‬‭ ‬ففي‭ ‬حديث‭ ‬تحويل‭ ‬القبلة‭ ‬المُطول‭ ‬الذي‭ ‬استغرق‭ ‬ثمانية‭ ‬آيات‭ ‬متتابعة‭,‬‭ ‬من‭ ‬الآية‭ ‬142‭ ‬انتهت‭ ‬بالآية‭ ‬الخمسين‭: ‬‮«‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬خرجت‭ ‬فولِّ‭ ‬وجهك‭ ‬شطر‭ ‬المسجد‭ ‬الحرام‭,‬‭ ‬وحيث‭ ‬ما‭ ‬كنتم‭ ‬فولوا‭ ‬وجوهكم‭ ‬شطره‭,‬‭ ‬لئلا‭ ‬يكون‭ ‬للناس‭ ‬عليكم‭ ‬حُجة‭,‬‭ ‬إلا‭ ‬الذين‭ ‬ظلموا‭ ‬منهم‭ ‬فلا‭ ‬تخشوهم‭ ‬واخشوني‭ ‬ولأُتم‭ ‬نعمتي‭ ‬عليكم‭ ‬ولعلكم‭ ‬تهتدون‮»‬‭,‬‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬المائدة‭ ‬3‭ ‬‮«‬حُرمت‭ ‬عليكم‭ ‬الميتة‭ ‬والدم‭ ‬ولحم‭ ‬الخنزير‭ ‬وما‭ ‬أُهل‭ ‬لغير‭ ‬الله‭ ‬به‭,‬‭ ‬والمنخنقة‭ ‬والموقوذة‭ ‬والمُتردية‭ ‬والنطيحة‭ ‬وما‭ ‬أكل‭ ‬السبع‭,‬‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬ذكّيتم‭ ‬وما‭ ‬ذُبح‭ ‬على‭ ‬النُصب‭ ‬وأن‭ ‬تستقسموا‭ ‬بالأزلام‭ ‬ذلكم‭ ‬فسق‭,‬‭ ‬اليوم‭ ‬يئس‭ ‬الذين‭ ‬كفروا‭ ‬من‭ ‬دينكم‭ ‬فلا‭ ‬تخشوهم‭ ‬واخشونِ‭.... ‬‮»‬‭ ‬آية‭ ‬واحدة‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬محرمات‭ ‬الطعام‭,‬‭ ‬فجاءت‭ ‬بناء‭ ‬‮«‬الخشية‮»‬‭ ‬بحذف‭ ‬الياء‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬أليق‭ ‬وأنسب‭ ‬للسياق‭.‬ ‮«‬وقل‭ ‬يا‭ ‬عبادي‭ ‬الذين‭ ‬آمنوا‭ ‬إن‭ ‬أرضي‭ ‬واسعة‭ ‬فإياي‭ ‬فاعبدون‭...‬‮»‬‭ ‬186‭ ‬البقرة‭,‬‭ ‬وقوله‭ ‬تعالى‭ ‬‮«‬قل‭ ‬لعبادِ‭ ‬الذين‭ ‬آمنوا‭ ‬اتقوا‭ ‬ربكم‭...‬‮»‬‭ ‬10‭ ‬الزمر‭. ‬لكثرة‭ ‬المشمولين‭ ‬بالخطاب‭ ‬في‭ ‬آية‭ ‬البقرة‭ ‬أثبت‭ ‬حرف‭ ‬الياء‭ ‬في‭ ‬‮«‬عبادي‮»‬‭ ‬وعندما‭ ‬ضاقت‭ ‬الدائرة‭ ‬بالمؤمنين‭ ‬والمتقين‭ ‬حُذفت‭ ‬الياء‭ ‬من‭ ‬‮«‬لعبادِ‮»‬‭.‬ كان‭ ‬هذا‭ ‬غيض‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬يعسُر‭ ‬على‭ ‬فرد‭ ‬الإحاطة‭ ‬بهذه‭ ‬اللفتات‭ ‬البيانية‭ ‬والمباني‭ ‬اللفظية‭ ‬التي‭ ‬يترتب‭ ‬عليها‭ ‬معان‭ ‬جديدة‭,‬‭ ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬الأمانة‭ ‬العلمية‭ ‬فإن‭ ‬الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬فاضل‭ ‬السامرائي‭ ‬له‭ ‬مؤلفات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬اللغوية‭ ‬التي‭ ‬تُبهر‭ ‬وتُدهش‭ ‬القارئ‭,‬‭ ‬للسامرائي‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬الأجر‭ ‬والثواب‭,‬‭ ‬ومنا‭ ‬الاحترام‭ ‬والتقدير‭ ‬والدعاء‭.‬

مشاركة :