سـرديـات: السرديات وحدود المتخيَّل اللا نهائية!

  • 9/25/2021
  • 09:17
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أصنف‭ ‬سرديات‭ ‬المتخيّل‭ ‬ضمن‭ ‬السرديات‭ ‬العابرة‭ ‬للحدود‭ ‬والعابرة‭ ‬للثقافات؛‭ ‬وفي‭ ‬السرديات‭ ‬نجد‭ ‬دومًا‭ ‬تلك‭ ‬المساحات‭ ‬الهائلة‭ ‬من‭ ‬التأويل‭ ‬اللانهائي‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬مضادًا‭ ‬لأيّ‭ ‬قراءة‭ ‬أحادية‭! ‬إنَّ‭ ‬اختلاف‭ ‬القراءات‭ ‬والتأويلات‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬لها‭ ‬النصوص‭ ‬السردية‭ ‬صادر‭ ‬عن‭ ‬اختلاف‭ ‬المرجعيات‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافيّة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالمتلقين؛‭ ‬فهناك‭ ‬اختلافات‭ ‬استثنائية‭ ‬كبرى‭ ‬بيننا‭ ‬جميعًا‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬ارتهنا‭ ‬إلى‭ ‬مرجعيات‭ ‬ثقافيّة‭ ‬متشابهة‭! ‬إنَّ‭ ‬قراءة‭ ‬الروايات‭ ‬تفتح‭ ‬مجالاً‭ ‬لتأويلات‭ ‬لا‭ ‬نهائية‭ ‬من‭ ‬المتخيّل،‭ ‬وقد‭ ‬تصطدم‭ ‬تلك‭ ‬الحدود‭ ‬اللانهائية‭ ‬مع‭ ‬رؤية‭ ‬خيال‭ ‬مؤطَّرة‭ ‬بمرجعية‭ ‬محدَّدة‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬تحويل‭ ‬رواية‭ ‬ما‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬سينمائي‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬مسرحي‭. ‬وسأستشهد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬برواية‭ ‬‮«‬زوربا‮»‬‭ ‬للروائيّ‭ ‬اليونانيّ‭ ‬نيكوس‭ ‬كازانتزاكي‭ ‬التي‭ ‬ناقش‭ ‬فيها‭ ‬فكرة‭ ‬السعادة‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬فلسفية،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬كازانتزاكي‭ ‬قد‭ ‬توسّل‭ ‬لبيان‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬بالطابع‭ ‬الروائيّ‭ ‬المتخيّل‭. ‬كان‭ ‬كازانتزاكي‭ ‬قد‭ ‬أكَّد‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حوار‭ ‬أُجري‭ ‬معه‭ ‬أنَّ‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬زوربا‮»‬‭ ‬هي‭ ‬شخصية‭ ‬حقيقية‭ ‬واقعيّة‭ ‬لشخص‭ ‬عاصره‭ ‬الكاتب،‭ ‬رغم‭ ‬نفي‭ ‬معاصري‭ ‬هذا‭ ‬الروائي‭ ‬من‭ ‬أصدقائه‭ ‬وجود‭ ‬شخص‭ ‬عاصره‭ ‬كازانتزاكي‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم‭. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يهمنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬مدى‭ ‬واقعية‭ ‬الأنموذج‭ ‬الروائي‭ ‬كونه‭ ‬قد‭ ‬أُخضِع‭ ‬إلى‭ ‬متخيّل‭ ‬روائيّ‭ ‬وفلسفيّ‭ ‬عميق‭ ‬جدًا‭ ‬أخرجه‭ ‬عن‭ ‬واقعيته‭ ‬المرجعية‭ ‬البحتة‭.‬ ‭ ‬إنَّ‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬زوربا‮»‬‭ ‬كما‭ ‬صوّرها‭ ‬كازانتزاكي‭ ‬كانت‭ ‬أنموذجًا‭ ‬للشخصية‭ ‬الحيوية‭ ‬المفعمة‭ ‬بالطاقة‭ ‬والبهجة‭ ‬العارمة‭ ‬والعنيفة‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الشهوات‭ ‬وفي‭ ‬الانفعال‭ ‬حدّ‭ ‬الضحك‭ ‬المفرط‭ ‬والبكاء‭ ‬المفرط‭ ‬كذلك‭.. ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعترف‭ ‬سوى‭ ‬برغبتها‭ ‬الكبيرة‭ ‬للحياة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تجتمع‭ ‬فيها‭ ‬البدائية،‭ ‬والحيوانية،‭ ‬والشهوانية‭ ‬المفرطة،‭ ‬والمقدس‭ ‬والمدنس،‭ ‬والطموح‭ ‬اللا‭ ‬محدود،‭ ‬وتقديس‭ ‬قيم‭ ‬العمل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الصرامة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭. ‬وقد‭ ‬أنتجت‭ ‬هوليوود‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬زوربا‮»‬‭ ‬في‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وكان‭ ‬دور‭ ‬البطولة‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬البطل‭ ‬العالمي‭ ‬الإيطالي‭ ‬أنتوني‭ ‬كوين‭ ‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬نجاحًا‭ ‬كبيرُا‭ ‬في‭ ‬تجسيد‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية،‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬أذكر‭ ‬الرقصة‭ ‬الشهيرة‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬‮«‬رقصة‭ ‬المطر‮»‬‭. ‬ولكن‭ ‬أرى‭ ‬أنَّ‭ ‬الفيلم‭ ‬لا‭ ‬يعطيك‭ ‬متعة‭ ‬المتخيّل‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تجعلك‭ ‬تحلق‭ ‬في‭ ‬آفاق‭ ‬لا‭ ‬متناهية‭ ‬من‭ ‬التأويل‭. ‬وقد‭ ‬حوّلت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬أوبرا‭ ‬وإلى‭ ‬عدة‭ ‬مسرحيات‭ ‬عالمية‭ ‬لاتزال‭ ‬تًعرض‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬أرقى‭ ‬المسارح‭ ‬الكبرى‭.‬ ‭ ‬تصف‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬زوربا‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬الثنائية‭ ‬المتضادة‭ ‬والعنيفة‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬اليوناني‭ ‬بين‭ ‬حضارة‭ ‬إغريقية‭ ‬كانت‭ ‬تحتفي‭ ‬احتفاء‭ ‬كبيرًا‭ ‬بالجسد‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ميراث‭ ‬لاهوتي‭ ‬كهنوتي‭ ‬أخضع‭ ‬الجسد‭ ‬إلى‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬المحاذير‭ ‬الدينية‭. ‬وبالتالي‭ ‬تمثل‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬زوربا‮»‬‭ ‬هذا‭ ‬التضاد‭ ‬والتناقض‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬يوناني‭ ‬تقليدي‭ ‬كان‭ ‬لايزال‭ ‬يخضع‭ ‬لمعطياته‭ ‬الكنسية‭ ‬رغم‭ ‬عبوره‭ ‬للحداثة‭. ‬وفي‭ ‬مشهد‭ ‬دال‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬يعبر‭ ‬زوربا‭ ‬عن‭ ‬حزنه‭ ‬العميق‭ ‬عندما‭ ‬رجم‭ ‬أهالي‭ ‬القرية‭ ‬الأرملة‭ ‬الحسناء‭ ‬الشابة‭ ‬بعد‭ ‬اتهامهم‭ ‬لها‭ ‬بالزنا‭.. ‬يدخل‭ ‬زوربا‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الجموع‭ ‬المحتشدة‭ ‬ويحاول‭ ‬حماية‭ ‬الأرملة‭ ‬الشابة‭ ‬من‭ ‬الحجارة‭ ‬المتقاذفة‭ ‬عليها،‭ ‬وعندما‭ ‬لا‭ ‬ينجحُ‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عنها‭ ‬بسبب‭ ‬كثافة‭ ‬الحشود‭ ‬الغاضبة‭ ‬يصرخ‭ ‬في‭ ‬الجميع‭ ‬‮«‬يا‭ ‬إلهي‭ ‬كيف‭ ‬يُقتل‭ ‬الجمال‭ ‬بهذه‭ ‬القسوة؟‭! ‬كيف‭ ‬يموت‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم؟‭!‬‮»‬‭ ‬ويبكي‭ ‬بكاءً‭ ‬شديدًا‭ ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬جثة‭ ‬الأرملة‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يقف‭ ‬عاشق‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬الشاب‭ ‬المهذب‭ ‬المثقف‭ ‬بعيدًا‭ ‬ساكنًا‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬انفعال‭ ‬ودون‭ ‬أي‭ ‬دفاع‭ ‬عن‭ ‬معشوقته‭!‬ ‭ ‬كان‭ ‬زوربا‭ ‬يرى‭ ‬أنَّ‭ ‬الإنسانية‭ ‬ضلَّت‭ ‬طريقها‭ ‬عندما‭ ‬تركت‭ ‬الطفل‭ ‬البدائي‭ ‬الذي‭ ‬عاشته‭ ‬يومًا‭ ‬ما،‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬مفردات‭ ‬الكون‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬بدهشة‭ ‬مطلقة،‭ ‬وكأنَّه‭ ‬يراها‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬فلا‭ ‬يكفُّ‭ ‬عن‭ ‬التحديق‭ ‬الجميل‭ ‬فيها‭. ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬زوربا‭ ‬بالفعل‭ ‬يفتح‭ ‬في‭ ‬كلَّ‭ ‬يوم‭ ‬عينيه‭ ‬على‭ ‬اتساعهما‭ ‬للتحديق‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬المدهش‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬وبهذا‭ ‬يكتسب‭ ‬شغفًا‭ ‬متجددُا‭ ‬بالأشياء‭. ‬ ويبقى‭ ‬تتبع‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬اليوتوبيا‮»‬‭ ‬فلسفيًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المتخّيل‭ ‬الروائي‭ ‬متعة‭ ‬كبيرة‭ ‬تعطيك‭ ‬العمق‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭. ‬والجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬العالمية‭ ‬الرائعة‭ ‬خضعت‭ ‬إلى‭ ‬ترجمتين‭ ‬عربيتين‭ ‬من‭ ‬اليونانية‭ ‬مباشرة‭: ‬الأولى‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬خالد‭ ‬رؤوف‭ ‬عن‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة،‭ ‬والأخرى‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬أستاذ‭ ‬الأدب‭ ‬اليوناني‭ ‬محمد‭ ‬حمدي‭ ‬إبراهيم‭ ‬عن‭ ‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب‭ (‬سلسلة‭ ‬المائة‭ ‬كتاب‭).‬ { أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك، كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

مشاركة :