أصنف سرديات المتخيّل ضمن السرديات العابرة للحدود والعابرة للثقافات؛ وفي السرديات نجد دومًا تلك المساحات الهائلة من التأويل اللانهائي الذي يكون مضادًا لأيّ قراءة أحادية! إنَّ اختلاف القراءات والتأويلات التي تخضع لها النصوص السردية صادر عن اختلاف المرجعيات الفكرية والثقافيّة الخاصة بالمتلقين؛ فهناك اختلافات استثنائية كبرى بيننا جميعًا حتى لو ارتهنا إلى مرجعيات ثقافيّة متشابهة! إنَّ قراءة الروايات تفتح مجالاً لتأويلات لا نهائية من المتخيّل، وقد تصطدم تلك الحدود اللانهائية مع رؤية خيال مؤطَّرة بمرجعية محدَّدة كما في حال تحويل رواية ما إلى فيلم سينمائي أو حتى إلى عمل مسرحي. وسأستشهد في هذا السياق برواية «زوربا» للروائيّ اليونانيّ نيكوس كازانتزاكي التي ناقش فيها فكرة السعادة من وجهة نظر فلسفية، وإن كان كازانتزاكي قد توسّل لبيان هذه الفكرة بالطابع الروائيّ المتخيّل. كان كازانتزاكي قد أكَّد في أكثر من حوار أُجري معه أنَّ شخصية «زوربا» هي شخصية حقيقية واقعيّة لشخص عاصره الكاتب، رغم نفي معاصري هذا الروائي من أصدقائه وجود شخص عاصره كازانتزاكي بهذا الاسم. ولكن لا يهمنا في هذا السياق مدى واقعية الأنموذج الروائي كونه قد أُخضِع إلى متخيّل روائيّ وفلسفيّ عميق جدًا أخرجه عن واقعيته المرجعية البحتة. إنَّ شخصية «زوربا» كما صوّرها كازانتزاكي كانت أنموذجًا للشخصية الحيوية المفعمة بالطاقة والبهجة العارمة والعنيفة في حب الشهوات وفي الانفعال حدّ الضحك المفرط والبكاء المفرط كذلك.. الشخصية التي لا تعترف سوى برغبتها الكبيرة للحياة، وبالتالي تجتمع فيها البدائية، والحيوانية، والشهوانية المفرطة، والمقدس والمدنس، والطموح اللا محدود، وتقديس قيم العمل إلى درجة الصرامة في ذلك. وقد أنتجت هوليوود فيلم «زوربا» في ستينيات القرن الماضي وكان دور البطولة من نصيب البطل العالمي الإيطالي أنتوني كوين الذي نجح نجاحًا كبيرُا في تجسيد تلك الشخصية، ولا أزال حتى الآن أذكر الرقصة الشهيرة في الفيلم «رقصة المطر». ولكن أرى أنَّ الفيلم لا يعطيك متعة المتخيّل كما هو حال الرواية التي تجعلك تحلق في آفاق لا متناهية من التأويل. وقد حوّلت هذه الرواية كذلك إلى أوبرا وإلى عدة مسرحيات عالمية لاتزال تًعرض حتى الآن على أرقى المسارح الكبرى. تصف رواية «زوربا» تلك الثنائية المتضادة والعنيفة في شخصية اليوناني بين حضارة إغريقية كانت تحتفي احتفاء كبيرًا بالجسد في مقابل ميراث لاهوتي كهنوتي أخضع الجسد إلى طائفة من المحاذير الدينية. وبالتالي تمثل رواية «زوربا» هذا التضاد والتناقض في مجتمع يوناني تقليدي كان لايزال يخضع لمعطياته الكنسية رغم عبوره للحداثة. وفي مشهد دال من الرواية يعبر زوربا عن حزنه العميق عندما رجم أهالي القرية الأرملة الحسناء الشابة بعد اتهامهم لها بالزنا.. يدخل زوربا إلى تلك الجموع المحتشدة ويحاول حماية الأرملة الشابة من الحجارة المتقاذفة عليها، وعندما لا ينجحُ في الدفاع عنها بسبب كثافة الحشود الغاضبة يصرخ في الجميع «يا إلهي كيف يُقتل الجمال بهذه القسوة؟! كيف يموت الجمال في هذا العالم؟!» ويبكي بكاءً شديدًا وهو يحمل جثة الأرملة الجميلة في حين يقف عاشق هذه المرأة الشاب المهذب المثقف بعيدًا ساكنًا دون أي انفعال ودون أي دفاع عن معشوقته! كان زوربا يرى أنَّ الإنسانية ضلَّت طريقها عندما تركت الطفل البدائي الذي عاشته يومًا ما، هذا الطفل الذي كان يتعامل مع مفردات الكون من حوله بدهشة مطلقة، وكأنَّه يراها كل يوم للمرة الأولى فلا يكفُّ عن التحديق الجميل فيها. وهكذا كان زوربا بالفعل يفتح في كلَّ يوم عينيه على اتساعهما للتحديق في الكون المدهش من حوله، وبهذا يكتسب شغفًا متجددُا بالأشياء. ويبقى تتبع فكرة «اليوتوبيا» فلسفيًا من خلال المتخّيل الروائي متعة كبيرة تعطيك العمق في الوقت ذاته. والجدير بالذكر أنَّ هذه الرواية العالمية الرائعة خضعت إلى ترجمتين عربيتين من اليونانية مباشرة: الأولى قام بها خالد رؤوف عن المشروع القومي للترجمة، والأخرى قام بها أستاذ الأدب اليوناني محمد حمدي إبراهيم عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة المائة كتاب). { أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :