يروى عن حجة الإسلام أبي حامد الغزالي قوله في كتابه (ميزان العمل): "ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعا، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال". وينظر البعض إلى الغزالي على أنه مؤسس الشك المنهجي، قبل ظهوره حديثا على يد ديكارت، أبي الفلسفة الغربية الحديثة، الذي قامت فلسفته على مسح الطاولة من كل موروث، بجعله في مرمى الشك المنهجي، وصولا إلى تأسيس منهجي لليقين، ومن ثم فرز الصحيح من الأفكار والعقائد والنظريات عن الزائف منها. إن الشك، قبل أن يكون فلسفيا، فهو إيماني؛ ذلك أن الإيمان يجب أن يكون عن يقين بصحة ما يؤمن به الإنسان. يترتب على هذه الحقيقة أن الشك يصبح حينها جزءا من عملية الإيمان نفسها. ما يجب لفت النظر إليه هنا أن ديكارت لم يكن، على عكس ما ينظر إليه كثير من غير المتخصصين والمهتمين بالفلسفة، رائدَ، أو مؤسسَ الشك لذاته، بقدر ما كان رائد التخلص من الشك العقيم المتخم باللاأدرية، وصولا إلى اليقين، من خلال اتخاذ الشك منهجا للوصول إلى اليقين ذاته. ذلك أن الشك قبل ديكارت كان في كثير منه شكا عدميا لاأدريا مؤذيا موصلا إلى جحيم التردي والسقوط. وحتى أبو حامد الغزالي الذي ينظر إليه على أنه سلف ديكارت في الشك المنهجي، لم يوصله شكه إلى يقين فلسفي أو منطقي مؤسس على برهان قاطع، كما فعل ديكارت، بل كل ما فعله، أعني الغزالي للتخلص من أدواء الشك، أنه ارتمى في أحضان التصوف كما هو معلوم من سيرته! إن الشك، قبل أن يكون فلسفيا، فهو إيماني؛ ذلك أن الإيمان يجب أن يكون عن يقين بصحة ما يؤمن به الإنسان. يترتب على هذه الحقيقة أن الشك يصبح حينها جزءا من عملية الإيمان نفسها. انظر إلى نبي الله ابراهيم عليه السلام حين سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، قال له ربه: أو لم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، فأراه الله تعالى كيف يحيي الموتى. والشك، وإن لم يُبْنَ على منهج فلسفي منطقي كما فعل ديكارت، فإنه كان ولا يزال سمة الأنظمة التعليمية المتقدمة، تلك الأنظمة التي تربي الطالب على عدم تلقي المعلومة إلا بعد فحصها وتمحيصها، ومن ثم اجتيازها لامتحان مبادئ العقل الكوني والمنطق وقوانين الطبيعة. يقول فيلسوف التنوير المعروف جون لوك: "ينبغي تربية الطفل على مواجهة الحقائق، والتفكير السليم، وعدم الاقتناع بالمعلومة حتى يحصل على تفسيرات صحيحة للأشياء التي يكون بإمكانه فهمها". ولقد يعز على الرائد الذي لا يكذب أهله أن يشكو من أن تعليمنا في المملكة يشكو من وضعية يصاغ ذهن الطالب فيها على التشبع باليقين الفارغ الساذج. إننا نجد الطالب يتربى في أجواء تعليمنا، باختلاف درجاته، على اليقين المطلق في كل معلومة يتلقاها من أستاذه، أو من شيخه، وخاصة في المواد والتعاليم الدينية. الفقهاء، يستوي في ذلك السلف والخلف، يتمتعون بقداسة في الذهنية العامة لدينا لم يتمتع بها حتى الصحابة أنفسهم في زمنهم، سواء في نظر بعضهم لبعض، أم في نظرة التابعين وتابعيهم لهم. ما أن تشكك في معلومة، أو تطلب معيارا أو برهانا على مقولة، أو سند حديث، أو تذكر قانونا طبيعيا معاشا، أو قانونا علميا مثبتا ينقض خبرا أو معجزة أو كرامة مثبتة في كتب سلفية أو حديثة، حتى يفاجئك من حصل على أعلى الشهادات الأكاديمية بالاعتراض بأن الشيخ، أو الواعظ الفلاني قال كذا وكذا، وعندها يصمت الجميع، ويذعنون للأمر، راضين أو مكرهين! يقارن الكاتب والبروفيسور اليمني: (حبيب عبدالرب سروري) بين البيئة التعليمية الغربية، ومثيلتها العربية بقوله: "يعود الطالب في الغرب من المدرسة وقد تعلم كيف يكون فضولياً جدا، شكاكاً جدا، وكيف يستخف بأي تفسير أو إجابة تأتيه من خارج المختبرات العلمية، يعود من المدرسة بعد أن تعلم كيف يرفض ألف مسلّمة ومسلمة، وكيف تكون (لا) هي الجواب الأول والأساس والمعتمد لأي معلومة تأتيه في حين يعود الطالب العربي بعد أن ازدادت حصيلته من التفسيرات اللاعلمية، الخرافية السحرية عن الكون والحياة والإنسان والماضي والمستقبل". قلت في مقال سابق: إن غياب عقلية التفكير العلمي، تلك العقلية الناقدة المتسائلة، تلك العقلية التي تطالب بالبرهان العلمي قبل قبول أي خبر أو صورة أو معلومة، هو السبب في تردينا في مهاوي التخلف التنموي والعلمي السحيق. وإن المسؤول عن غياب هذه العقلية هو التعليم بالدرجة الأولى، إن لم يكن هو المسؤول الوحيد؛ إذ تعليمنا اليوم، في أحسن أحواله، ربما باستثناء بعض المجالات التطبيقية، لا يُخَرِّجُ سوى كَتبة وموظفين حكوميين فحسب، ذلك لأنه ليس مؤهلا لتخريج طلبة مهنيين مزودين بمهارات القدرة على الوفاء بأدنى متطلبات شروط سوق العمل في القطاع الخاص، ومن ثم تصبح الوظيفة الحكومية، التي لا تتطلب في الغالب سوى تأهيل متدن، هي الملاذ! ولله الأمر من قبل ومن بعد. لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net
مشاركة :