كانت أفغانستان، قبل انقلاب (1978)، هادئة بجبالها وقبائلها، الاِنقلاب الذي قاده حزب «خلق» اليساري، برئاسة محمد تراقي (قُتل: 1979)، ويومها كان محل زهو اليسار، بينما وجدته واشنطن فرصةً، لاستدراج موسكو إلى كهوف وممرات عصية، بشعار الدِّفاع عن الإسلام. أسس الاِنقِلاب لكارثةٍ، بدأت ولم تنتهِ، مع أنَّ ما كان يطلبه اليسار متاحاً في العهد الملكي، فمنذ (1919) تبادل فلاديمير لينين (ت: 1924) رسائل الصَّداقة مع زعامة أفغانستان، وعُقدت معاهدات بين موسكو وكابول. التفتت أميركا إلى الدور السوفييتي بكابول، بعد زيارة الرئيس أيزنهاور(1953 - 1961) عندما رأى: «المطار الذي نزل فيه أقامه السُّوفييت، والسَّيارة التي استقلها مِن طراز زنم السوفييتية، والطريق الذي مرَّ فوقه إلى المدينة شقه السوفييت، وبيت الضِّيافة الذي نزل فيه بناه السُّوفييت»(العامري، تاريخ أفغانستان وتطورها السِّياسي، عن موسوعة العالم الثالث). بلغت المساعدات السوفييتيّة لأفغانستان (1966 - 1976) سبعمائة وخمسين مليون دولار- يُعادل هذا الرّقم اليوم مليارات- كذلك السّلاح وتدريب الجيش مِن السوفييت، أمَّا أميركا فكانت إلى جانب باكستان في نزاعها مع جارتها أفغانستان. فما حاجة موسكو للاِنقلاب إذن! اُعلنت أفغانستان جمهوريَّة (1973)، بعد اِنقلاب محمد داوود خان، قريب الملك، بينما كانت الملكيَّة صمام أمان لبيئة اجتماعيَّة معقدة، فبدأت بالتَّنوير والتَّحديث تأثراً بالنموذج الأتاتوركي. لم يؤثر اِنقلاب داود سلباً على ما بين موسكو وكابول، بل متن العلاقات. كما لم يثر الأميركان وحلفاءهم، ولا باكستان، مثلما أثارها انقلاب اليسار بعد خمس سنوات. مِن ذلك الزَّهو اليساري بانقلاب (1978)، أنَّ تقاطرت على كابول وفود اليسار، والتقى قياديون يساريون عراقيون بزائر أفغاني، كان بزيارة رسميَّة لبغداد، بينهم صاحب مؤسسة «المدى» فخري كريم، الذي أفادني بعد الاستفسار منه، أنهم تحدثوا كتابةً عند الاجتماع بالزَّائر الأفغاني، خشيةً مِن أجهزة التَّنصت، وعند خروجهم اعتقلوا مِن قِبل السُّلطة، لغرابة عدم وجود حديث خاص، غير تبادل التحايا والمجاملات! كان الزَّهو مترابطاً، هناك كابول، وهنا عدن، وانتصار بفيتنام، غير أن الأمر مختلفٌ بالنِّسبة لأفغانستان. برر اِنقلاب (1978)، المحتفى به، للأميركان تجنيد جماعات دينية شرسة، عبر مضيق خيبر، تحت شعارات دينيَّة، حتَّى غدت قندهار وأخواتها مفارِخ لِما انشطر عنها، في ما بعد، مِن جماعات الإرهاب، زها بها الإسلام السِّياسي، بعد الزَّهو بولاية الفقيه الإيرانيَّة، لتبرز صحوة دينية لا تبقي ولا تذر. ما يخص خسارة اليسار العِراقي، عجل الانقلاب بإعدام خمسة وثلاثين عسكرياً، بينهم بشار لاعب كرة القدم (17/5/1978). فحسب مخاوف البعث، إذا كانت أفغانستان الخامدة تشهد انقلاباً عسكرياً يساريَّاً، فالعراق مرشحاً! كان درساً بليغاً وسط منطقةٍ مدججة بسلاح الدِّين والقبيلة. هذا، ومازالت التداعيات تتوالى، حتّى دخلت «طالبان» القصر ثانيةً. انقلب دواد على الملك، وتراقي يقتل داود، وحفيظ يقتل تراقي، وكارمال يقتل حفيظ، فطالبان تقتل نجيب الله، رفيق تراقي وحفيظ وكارمال، بدولاب مصائر عجيب. يذكرنا بما حدث في قصر الكوفة (71هجرية)، يوم اِنقضَّ المروانيون فيه على الزُّبيريين: فتَشَاءمَ عبد الملك بن مروان (ت: 86 هجريَّة)، مِن قول أحدهم وهما داخل القصر: «رأيتُ رأس الحسين بين يدي ابنِ زياد ها هنا، ورأيتُ رأس ابنِ زياد بين يدي المختار، ورأيتُ رأس المختار بين يدي مصعب، ورأيتُ رأس (مصعب) بين يديك. فبأيِّ شيء أحدِّثُك بأعجبَ من هذا؟». فهدم عبد الملك القصر تطيراً مِن تعاقب الرُّؤوس (سبط ابن الجوزي، مرآة الزَّمان). كاتب عراقي
مشاركة :