يحدث في الشعر, أن تجد بيتًا عن قصدة, يؤدّي أداءها ويقوم مقامها, وقد تمرّ بهذا البيت دون أن يلفت انتباهك, لبساطة ألفاظه وقرب معانيها. لكنك, وبعد أن تجاوزه, تكتشف أنّ شيئًا منه قد علق بك, بعضٌ من حلاوته ما يزال على لسانك, يذكرك به ويدعوك للعودة إليه. وإذا ما عدت تتأمّله, حتمًا ستذكر قول أبي نواس الحسن بن هانئ: “ يزيدك وجهه حسنًا إذا ما زدته نظرا”. أشبّه هذا البيت بامرأة يشعّ وجهها حسنًا وأنوثة, وهي ليست بحوراء ولا دعجاء ولا لعساء ولا.. وإذا ما رحت تفتّش عن مصدر إشعاع حسنها الطاغي, سيجهدك البحث دون أن تقبض على شيء مما تبحث عنه. وفي الشعر مثل ذلك, ومنه هذا البيت المُعجب الجميل, رغم خلوّه من الخيال والتشبيهات والاستعارات والمجازات, خالٍ من الصور ومن المحسّنات البديعيّة, خالٍ من اللغة الفارهة.. قد يُعجزنا ويبهتنا وجه الحسناء الأنثويّ الصبوح, غير أنّنا في الشعر, وقد عُلّمنا شيئًا من منطقه, لن نعدم وسيلة في استجلاء محاسن هذا البيت: حلوٌ حديثك لكنّا على سفرٍ وسمحةٌ أنتِ لكنّا هنا غُرَبا المعنى الأوليّ للبيت, يقول إنّ حديثها حلو, ممتع ولا يُمل, لكن الشاعر أو المتكلّم في البيت, قد بدا لنا غير مهيّأ لهذه الفرصة التي سنحت له, غير مستعد لأن ينعم بمواصلة الاستماع لحديثها الحلو, لذلك رأيناه كمن يعتذر لها, وقد بدا مضطرًّا للانصراف عنها, بحجّة أنه ـ أو كليهما ـ على سفر. وليس حديثها هو الحلو وحسب, بل هي أيضًا سمحة, يسيرة وسهلة المراس, قريبة المنال ودانية الظِلال, ومع ذلك يصرّ على الانصراف عنها, معتذرًا هذه المرة بكونه أو كونهما غريبين في المكان. والغريب عادة ترهقه ذِلّة, ولا قِبل له بالمغامرات الغراميّة. لذلك هو مضطر لعدم مجاراة هذه الحلوة المتسامحة في إقبالها عليه, ويبدو أنّه سيغيّر مقعده أو ينصرف عنها. وقد سمعتُ الشاعر مرارًا وهو يقرأ الشطر الثاني من هذا البيت هكذا “ وحلوةٌ أنتِ لكنّا هنا غُرَبا”, بدلًا من سمحة أنت, المثبتة في الديوان بطبعتيه. بحسب هذا المعنى الأولي للبيت, هو جميل دون ريب, لكن من أيّ جزئية فيه سطع جماله, وهو خالٍ ـ كما أسلفنا ـ من أخيلة الشعر وبلاغاته؟ هذا هو السؤال الذي سنسعى في تلمّس إجابته. الشطر الأول مكون من جملتين اسميتين, ( حديثك حلوٌ ــ نحن على سفر), لا علاقة لأيّ منهما بالأخرى, رغم كون الثانية ما جاءت إلا استدراكًا على الأولى, وهذا ما يقوله الحرف الناسخ “ لكن” الذي يفيد الاستدراك, وكل ما فعله الشاعر من خرقٍ للمألوف في نظام النحو, أن قدّم قدّم خبر الجملة الأولى على مبتدئه, فقال ( حلوٌ حديثك), فكأنه قدم الصفة على الموصوف, إذا اعتبرنا الأخبار كلها صفات. الشطر الثاني من البيت, أيضًا مكوّن من جملتين اسميّتين ( أنتِ سمحةٌ ــ نحن هنا غربا), لا علاقة بينهما, رغم استدراكه على الأولى بالثانية, وبالحرف الناسخ “ لكن” الذي تكرّر مرّتين, وأيضًا قدّم خبر الجملة الأولى على المبتدأ فقال ( سمحةٌ أنت).. وما عدا ذلك, لا نجد في البيت كاملًا, أيّ انحراف أسطوريّ باللغة نحو الشعريّة. ولعلي أضرب مثالًا بسيطًا لهذا النوع من الانحراف باللغة, كأن أقول غرقت في المشاكل, والغرق لا يكون إلا في الماء. وقس على هذا ما نفعله من انحرافاتنا باللغة, نحو لغة شعرية مغايرة للغة العادية. لا شيء من ذلك في هذا البيت الشعري, بغض النظر عمّا يُثار حول مصطلح الشعريّة من الجدل في الشرق والغرب, وهو الذي لم يُتفق على مفهوم محدّد له حتى اليوم. والاستدراك عند الأصوليين والنحاة, يؤتى به لواحدة من غايتين؛ إمّا لرفع ما يتوهّم ثبوته, أو لتلافي النقص والقصور. فهل في حلوٌ حديثك أو وسمحةٌ أنت نقصٌ بادر الشاعر إلى تلافيه؟ الجواب قطعًا لا. هل في حلوٌ حديثك وسمحةٌ أنت ما يتوهّم ثبوته؟ الجواب هنا نعم, وهو أنّ نعته لها بالتسامح ولحديثها بالحلاوة, يُتوهّم منه التزلّف ليقترب منها أكثر, أو رغبته في مواصلة الإنصات إليها والبقاء معها, فجاء استدراكه ليرفع هذا التوهم. لاحظْ أنّ استدراكه حين رفع توهّمها, قد عكَس خيبة توقعها وتوقعنا نحن أيضًا, فمتى كان الحديث الحلو وتسامح الحلوات عوامل تنفير؟! ها نحن نراه يهمّ بمغادرتها! مفارقة تبعث على الاستغراب, ولأنه مطالب بالتبرير الكفيل برفع هذا الاستغراب, عمد إلى شرح أحواله وظروفه بكلمتين اثنتين ( السفَر والغربة). غايةٌ في الاختصار والدّقة. لو أننا وضعنا البيت أمامنا, وأسقطنا عليه محور الاختيار أو الاستبدال, وحركناه إلى كلمة ( سَفَر), ثم رحنا نبحث عن كلمة بديلة لها, نختارها نحن, ولتكن ( عَجَل), ليصبح شطر البيت: حلوٌ حديثك لكنّا على عَجَلٍ. هل سيكون مبرّره هذا كافيًا؟ هل ستؤدّي هذه اللفظة, أو أيّ لفظة أخرى, ما أدّته لفظة سَفَر في البيت؟ وبكل ما للسّفر من الحمولة في المعنى؟ بالتأكيد لا. وقل مثل ذلك في ( غُرَبا), ذات الكثافة السرمديّة في حمولتها من المعنى. من هذه الاختصارات البالغة الإيجاز, الدقيقة في أدائها, الكثيفة في حمولاتها, ومن تلك المفارقات العجيبة والمدهشة, استحوذ هذا البيت على ذائقتنا الشعرية, وأقنعنا بجماله الذي لا يقف عند هذا الحد, بل انظر أيضًا إلى الاعتذار والتحرّج الذي ظهر على الشاعر أو المتكلم, وليس في كلامه ما يوجب الاعتذار. هل في حلوٌ حديثك أو سمحةٌ أنتِ ما يوجب الاعتذار؟ قطعًا لا. وإن قلت هو يعتذر عن التوهم الذي بادر إلى رفعه بالاستدراك, فالمتوهّم هو غاية ما تتمناه تلك السمحة الحلوة, ذلك أنّ المتوهّم كما أسلفنا, هو تزلّفه إليها وتقرّبه منها, وهذا يفرحها ولا يدعوه للاعتذار. وهنا تأتي المفارقة, إنّه لا يعتذر عمّا قاله, ولا عمّا توهّمّته هي, هو يعتذر عمّا لم يقله, يعتذر عن تصرّفه الذي ينويه, المفهوم ضمنًا, والمنافي لكل ما قيل أو توهّم, وأقصد اضطراره أو رغبته في الابتعاد عنها. لم يصرّح برغبته في الابتعاد عنها, ولم يقل إنه غير قادر على الشروع في مغامرة غراميّة معها, هو لم يقل شيئًا من هذه الكوارث التي يصعب على أيّ فتاة ـ مهما كان تسامحها ـ أن تتقبّلها, ومع ذلك استطاع إيصال كلّ هذه الكوارث ضمنًا, لكن في منتهى اللياقة واللباقة والمديح والثناء, فعل كل ذلك واعتذر عنه في أربع جُمل هي غاية في القصر والوضوح, وهذا لعمري هو جمال الشعر وسحره. وبما أنّ سحر الشعر لا خلاف فيه أو عليه, فقد سحرها وجعلها تتقبّل قراراته الجائرة تلك, راضية بل وتقرّ بها عينًا, ما دام قد أغرقها بالثناء, “ والغواني يغرّهنّ الثناء”, وفوق ذلك أقنعها وأقنعنا بأنّ له كل العذر, ما دام مسافرًا وغريبًا, والمسافر معذور حتى لو أفطر في نهار رمضان, وجمع وقصَرَ في الصلاة. هل وقف جمال هذا البيت عند هذا الحد؟ الجواب لا. فنحن إلى الآن لم نسأل أنفسنا, لماذا عمد مع “ حديثك” إلى السفر؟ ومع سمحةٌ أنت إلى غُرَبا؟ ما أراه اختار السفر تحديدًا, مع حديثك إلا لأن المسافر مهموم عادة بشؤون السفر, مسكون بمن خلّفهم وراءه, وبمن هو قادم إليهم, ومن كانت هذه حالته, لا وقت لديه لطول الأحاديث, وفي السفر إنّما هي أطراف الأحاديث, كما قال كثيّر عزّة: ولمّ قضينا من منى كلّ حاجة ومسّح بالأركان من هو ماسحُ وشدّت على حُدب المهارى رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائحُ أخــذنا بأطـــراف الأحاديــث بيننا وسالت بأعناق المطيّ الأباطحُ أطراف الأحاديث وحسب, الأحاديث الطويلة تقتضي التركيز معها لوقت طويل, والمسافر عادة مشغول البال بأمورٍ شتى, ومن هنا كان لاعتذاره بالسفر كل الوجاهة واللياقة.. وقل مثل ذلك في اختياره لغُرَبا مع سمحة أنت, فالغرباء الذين تجمعهم صالة انتظار, في مطار أو ميناء أو محطة قطار, سرعان ما يتفرّقون, ومهما كانت ذات الحديث الحلو متسامحة وسهلة, ليس من العقل في شيء أن يعلّق قلبه على واجهات السراب. فضلًا عن توجّس الغريب وحذره الزائد, تجاه هذا النوع من العلاقة بالغرباء. ربّما كان ضمير المتكلمين في لكنّا, يشير إليهما معًا هو وهي, ما يعني أنّ كليهما على سفر وكليهما غريبان, ولولا السفر والغربة لكان لها ما تريد. غير أنني أميل إلى كونه هو وحده المسافر والغريب, وحين قال ( لكنّا) بصيغة الجمع, إنّما هو يُعظم من شأن ذاته, من خلال التحدث عن نفسه بصيغة الجمع, كمعادل موضوعي لشعوره المفرط بالوحدة, كأيّ مسافر أو غريب, وهذا ما يؤكده قوله ( غُرَبا) التي هي غرباء للجمع حذفت منها الهمزة, إذ لو كان هو وهي المسافرين, لكانا أيضًا غريبين بصيغة المثنى, وليس غربا بصيغة الجمع وهما اثنان, وهذا ما يرجّح كونه هو الغريب وحده, ويتحدّث عن نفسه بصيغة الجمع. وعلى الرغم من خلو البيت من الأفعال, التي من شأنها أن تبعث الحركة والحياة, إلا أنّه قد أوقفنا أمام مشهد يموج بالحركة والحياة في أدقّ وأعمق تجلياتها, وضعنا في صورة بطليه اللذين اختلفت وتضاربت أحوالهما؛ الحسناء المنطلقة في الحديث, المقبلة والمنفتحة على الحياة, والمسافر الغريب المتردّد أمام انبهاره بها وبحديثها. رافقناهما, ولمسنا خفق قلبيهما, عذرناه, وأسفنا لخيبة توقعها. لعلي أستطيع القول عن سّرّ جمال هذا البيت, قبل أن يكون في روح قائله, إنه يكمن في كل كلمة فيه, ما دام ـ وهو الخالي من كل محسّنات البديع وبهرج البيان ـ قد استطاع أن يخطر أمامنا, كغانية استغنت بجمالها عن الحلي, وعن كل مساحيق الزينة ومستحضرات التجميل. وبعد أن تعمدتُ قراءة هذا البيت بمفرده, معزولًا عزلًا تامًا عن سياقه في القصيدة التي تضمّنته, أشعر الآن بحاجة القارئ للاطلاع على القصيدة, ولصعوبة إيرادها كاملة هنا, سأكتفي باستحضار المقطع الأخير منها, وهو المقطع الذي ختمه الشاعر بهذا البيت, وجعل منه خاتمة للقصيدة: بهــــيّة الخــدّ إنّا نازلون هـــنا يا عمرك الله ردّي دوننا الحُجُبا لُمّي فراشك من ورد ومن سحبٍ لا تألف البيدُ لا وردًا ولا سُحبا متاعنا الحب, مهما كنت في سعةٍ فليس عندك ما نلقى به خُلَبا ولا نســائم عـــطر يختــلفن إلى ضفافه السمر إمّا هزّهنّ صَبا ولا غــــدائر طابت طـــيبه أرجًا ولا صحابة ســالوا سيله ذهبا حلوٌ حديـــثك لكنا على ســــفرٍ وحلــوةٌ أنتِ, لكـنّا هـنا غُــرَبا
مشاركة :