شمال أفريقيا يحتاج إلى المزيد من الاهتمام الأميركي، لكن هل سيحصل عليه؟
قد لا تكون الولايات المتحدة اللاعب الأكثر أهمية في شمال أفريقيا لكن يمكنها استخدام نفوذها لتشكيل التطورات الإقليمية ومنع القوى التحريفية مثل روسيا والصين من مد نفوذها وعرقلة مسار الإصلاحات السياسية والاقتصادية.
أفريقيا.. ساحة صراع جديدة على النفوذ
لعقود من الزمن احتلت منطقة شمال أفريقيا المرتبة الثانية على صعيد اهتمامات ومصالح السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، فلم يكن لها دور حيوي في عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، كما لم يكن لديها حضور في ما يخص التحديات الأمنية في منطقة الخليج. وعادة ما تكون بلدان شمال أفريقيا من المغرب إلى ليبيا (باستثناء مصر) فكرة غائبة عن كاتب الاستراتيجيات الأميركية.
ووفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومعهد الولايات المتحدة للسلام، تُلزم زيادةُ نشاط روسيا والصين في المنطقة الولايات المتحدةَ بتوضيح مصالحها السياسية وإعادة ترتيب أولوياتها. ويمكن لمثل هذا التقرير -إلى جانب الدراسات الأخرى- المساعدة على تشكيل السياسة الرسمية، ويقدم هذا التقرير نهجًا مفيدًا لإدارة جو بايدن.
وتُعد دول المغرب العربي صورة مصغرة لأجندة الشرق الأوسط والبحر المتوسط، بدءًا بقضايا فشل أنظمة الحكم وتعثرها، ومرورا بالضغوط الاقتصادية والتطرف بنوعيه -المحلي والمستورد- ووصولا إلى أنماط الهجرة غير الشرعية. كما تُعد دول المغرب العربي منصة غنية بالأمثلة التي تساعد على دراسة الأنظمة السياسية، مثل النظام الملكي الحديث في المغرب، فضلاً عن وجود دولتين غنيتين بالنفط؛ واحدة تائهة في غياهب الفوضى (ليبيا) وأخرى تتبع نظاما استبداديا (الجزائر). أما تونس فهي البلد الوحيد من دول الربيع العربي الذي استطاع الوصول إلى مرتبة “حر” وفق الفهارس العالمية للممارسات الديمقراطية.
وتقر الدراسة بوجود تنافس على جذب اهتمام صانعي السياسة الأميركية، خاصة أن الإدارات الأميركية المتعاقبة قد أعربت عن نيتها تجنب الانخراط في قضايا الشرق الأوسط، والتركيز بدلاً من ذلك على آسيا. لكن المؤلفين وضعوا بعناية نهجًا سياسيًا مبنيا على النظرة العالمية لإدارة بايدن، وليس لديهم توقعات خيالية حول احتمال أن تصبح هذه المنطقة أولوية جديدة لواشنطن، كما يقترحون العمل يدًا بيد مع الحلفاء والمؤسسات الدولية، عوضاً عن استراتيجية تقودها الولايات المتحدة بالتحالف مع دول أخرى أو خطة تعمل على ضوئها الولايات المتحدة بمفردها.
ووفق المنظور التاريخي حظيت منطقة شمال أفريقيا باهتمام كبير من الولايات المتحدة، بدءًا من إقامة العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في عام 1786، ومرورا بحرب 1801 – 1805 ضد قراصنة الساحل البربري أو ما يسمى اليوم ليبيا، ووصولا إلى دورها المهم في الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة من خلال قواعد في المغرب وتونس وليبيا. لكن في العقود الأخيرة ركزت سياسة الولايات المتحدة في العالم العربي على منطقة الخليج أو على السلام العربي – الإسرائيلي، ونتيجة لذلك شعرت منطقة شمال أفريقيا بتجاهل صانع السياسة الأميركي.
وتعد المساعدات والمنح الأميركية متواضعة وبسيطة جداً إلى درجة أن معظم التونسيين والمغاربة لم يسمعوا بالبرامج السرية التي تعزز الحكم والإصلاحات الاقتصادية. ولئن وافق المغاربة على صفقة إدارة دونالد ترامب بالتطبيع مع إسرائيل مقابل اعتراف الولايات المتحدة بمطالب المغرب المتعلقة بالصحراء المغربية إلا أن المغرب يشعر بخيبة الأمل الآن، لأن البيت الأبيض تحت قيادة بايدن لم يتبنَّ صفقة الصحراء التي ألغت عقودًا من الدبلوماسية الأميركية للوصول إلى حل تفاوضي لهذا الصراع. بدلاً من ذلك تقوم الإدارة الحالية بمراجعة الملف، ولا ترفض أو تؤكد الاتفاقية التي تم التوصل إليها في عهد ترامب.
ويؤمن مؤلفا الدراسة الجديدة، سارة يركس وتوماس هيل، بضرورة المشاركة الأميركية المستدامة في المنطقة، ليس فقط بناءً على تاريخ الالتزامات السابقة أو على المزايا الدائمة لتعزيز الاستقرار من خلال تحسين الحكم، ولكن يقوم ذلك الإيمان على المستجدات الأخيرة؛ حيث أن روسيا والصين حريصتان كل الحرص على ملء أي فراغ تتركه الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي وراءهما. ومن وجهة نظرهما وضعت روسيا بالفعل استراتيجية أمنية مع ليبيا باعتبارها المحور الرئيسي، واستخدمت الصين مبادرة الحزام والطريق لإغراء كل دولة من دول شمال أفريقيا بعقد اتفاقيات اقتصادية معها. وتُعد الصين الآن أكبر شريك تجاري للجزائر ومصر.
ويقدم كل من يركس وهيل الحُجج على أن الصين تعمل الآن على تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي، وإن كان ذلك التكامل يخدم المصلحة الشخصية للصين، ويعزز تحسين فرص استثماراتها الاقتصادية. ولعقود من الزمن عزز صانعو السياسات الأميركية التكامل الاقتصادي لتوسيع نفوذ المنطقة في ما يخص التجارة مع أوروبا والولايات المتحدة أو الأسواق الأخرى. إن إيجاد مناهج أكثر كفاءة لصادرات دول المغرب الزراعية -أو ربط النقل وشبكات الكهرباء- من شأنه أن يزيد تنقل العمالة ويولد النمو الاقتصادي، ومع ذلك فشلت نخب الدول المغاربية السياسية في تحويل الخُطب الرنانة بخصوص التكامل الاقتصادي إلى واقع ملموس. والحقيقة المؤلمة هي أن غياب الثقة والخلافات السياسية مثلا حجر عثرة أمام المنطقة ومنعا تلك الدول من استثمار موارد وإمكانات رأس مالها البشري. ومن المؤسف أن تنجح الصين في ما فشلت فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مجال تعزيز التكامل الإقليمي لدول المغرب العربي.
ولتجنب الوقوع في فخ المبالغة والتهويل في ما يخص الحديث عن المُمارسات السياسية المفضلة لدى الكاتبين، ركزت الدراسة بصورة مفيدة على العمل من خلال المؤسسات متعددة الأطراف كخيار أول. والعمل بشكل ثنائي فقط عندما تدعو الحاجة إلى ذلك. وهذا النهج يتلاءم مع رغبة إدارة بايدن في القيادة الدبلوماسية، واستخدام التعاون الدولي والمؤسسات العالمية لحل العديد من مشاكل العالم. وبالنسبة إلى التحديات الهائلة التي تواجه شمال أفريقيا فقد يعني ذلك التنسيق الوثيق مع الاتحاد الأوروبي، أو مع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية الأفريقية والعربية والمنظمات غير الحكومية الدولية المهمة التي تنشط في تنفيذ برامج التنمية والديمقراطية والمبادرات الإنسانية.
وسيُمثل جمع الموارد المالية والتقليل من تكرار وازدواجية الجهود استراتيجية ذكية للبرامج التي يقودها المدنيون والتي تهدف إلى الحكم الرشيد ومكافحة الفساد وبطالة الشباب وغيرها من التحديات المزمنة التي تواجه دول شمال أفريقيا. ويمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحسين تنسيق الجهود التي يقودها أشخاص ذوو تفكير متناظر، وسيكون ذلك دليلًا واضحاً على طريقة العمل المفضلة لإدارة بايدن
أما بالنسبة إلى التحديات الأمنية (إدارة الحدود، منع الهجرة غير الشرعية، مواجهة الجماعات الإسلامية المتطرفة بما في ذلك داعش) فيصعب تنفيذ استراتيجية اللجوء إلى المنظمات الدولية. ويوصي تقرير “كارنيغي – يو أس أي بي” بالسماح للأمم المتحدة بفض النزاعات الإقليمية، لكن هذا النهج لم يثبت نجاحه، خاصة عندما يكون رعاة أطراف النزاع مختلفين في ما بينهم.
وفي ما يتعلق بالتطرف على الصعيد الداخلي لم تكن برامج بناء القدرات الثنائية والإصلاح القضائي كافية لتحقيق أي نجاح، وذلك ما تعلمه الفرنسيون من تجاربهم مع دول الساحل. ومع ذلك، أظهر المغرب والجزائر على وجه الخصوص كفاءة أكبر في التعامل مع التطرف الداخلي، وإن كان ذلك على حساب الحريات المدنية. ومن بين المفارقات أن هذين البلدين يمكن أن يكونا محركين لتعاون إقليمي أكبر في العديد من القضايا، لكن بسبب انعدام الثقة بينهما لم يتم إنجاز أي تقدم، مما يثير خيبة الأمل لدى القوى الخارجية.
لذا فإن ضمان ألا تكون شمال أفريقيا مصدرًا للفوضى ليس مسؤولية الولايات المتحدة وأوروبا فقط؛ إنها مسؤولية دول شمال أفريقيا أيضاً، حيث تعمل كل دولة من دول شمال أفريقيا الآن على تحسين الحوكمة في الداخل وتعزيز مزاياها الجغرافية كجسور بين أوروبا وأفريقيا. وقد لا تكون أميركا اللاعب الأكثر أهمية، لكن يمكنها استخدام نفوذها الدبلوماسي لتشكيل التطورات الإقليمية وربما منع القوى التحريفية -مثل روسيا والصين- من مد نفوذها بطريقة تعرقل مسار الإصلاحات السياسية والاقتصادية.
إلين لايبسون
مديرة برنامج الأمن الدولي – جامعة جورج ميسون