عنوان هذه المقالة مأخوذ بتمامه من الفصل الحادي عشر من كتاب (قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً) لصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، الذي قصّ فيه سيرة الوطن ورجالاته الكبار، وتحوّلاته المفصلية، والتحديات التي رافقت نشوء الدولة قبل خمسين عاماً، وعلى الرغم من متعة السرد القصصي التي قام عليها بناء الكتاب ضمن منظور تاريخي ينطلق من الطفولة المبكرة لصاحب السموّ وينتهي بالوصايا العشر التي كانت بمثابة موادّ دستورية لإدارة دفّة الحكم، إلا أنّ قيمة الكتاب التاريخية تتجاوز ذلك بكثير، وكلّما أعاد الإنسان قراءته انكشفت له محطات ومواقف ولاحت له دروسٌ وعِبَر، وأيقن أنّ هذا الكتاب هو تاريخ الوطن بكل تفاصيله، وسيكون نِعم الزاد للأجيال التي لم تعاصر تلك المراحل المبكرة من عمر هذا الوطن الطيب الأصيل. من بين جميع الشخصيات التي ذكرها صاحب السموّ بحضورٍ لافت كان للمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، الحضورُ الأكثر كثافة، والأكثر فاعلية في بناء شخصية صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد عقلاً وعاطفة ووعياً ووجداناً، فهو بحق المُلهم الأكبر لصاحب السموّ، وعلى يديه تعلّم أعمق دروس الحياة، ولذلك كانت نبرةُ حديثه عن والده نبرةً تجمع بين الفخر والاعتزاز وبين الثقة الراسخة بسداد نظرات هذا الشيخ الجليل الذي لوّحت شمس الصحراء جبينه العالي، واكتسب من حكمة البداوة ما جعله قادراً على إدارة إمارة في غاية النشاط والحيوية، وبناء مدينة زاهرة تعجّ بالحركة والبشر، ويتقاطر إليها الناس من كل حدب وصوب، وقبل ذلك وبعده كان الشيخ راشد، رحمه الله، هو العضد الأقوى لصانع الاتحاد وباني مجد الوطن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، طيّب الله ثراه، فكان بحقّ واحداً من زعماء الجزيرة وحكمائها وفرسانها الذين يستحيل نسيانهم مهما تطاولت الأيام والسنون. وفي ظلال الذكرى الحادية والثلاثين لرحيل الشيخ راشد الذي غادر هذه الدار الفانية في السابع من أكتوبر عام 1990م، اختار صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد بعض المقتطفات من سيرته الذاتية التي تحكي عمق علاقته بوالده، وتكشف عن الأثر العميق الذي تركه في بناء شخصيته، وعن أخلاقه الفريدة في بناء الدولة وطبيعة علاقته مع الناس، قبل أن يصل إلى لحظات النهاية التي يتهدّج فيها الصوت، وتتأثر فيها النفس وهي تحكي لحظات الوداع لرجل كان ملء السمع والبصر، وكان قبل ذلك كلّه أباً رحيماً وإنساناً نادراً، قد جمع من طيب السجايا وكريم الشمائل ما جعله قدوة لأبنائه وأبناء وطنه الذين أحبوه من قلوب صادقة، وتفطرت مرائرهم على فراقه، فالقائد الإنسان هو نموذجٌ متفرد لا تطيب النفوس بنسيانه أبداً، وهكذا كان الشيخ راشد، رحمه الله، وأجزل مثوبته. يفتتح صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد حديث الذكريات الطيبة عن والده من خلال ثلاثيّة عميقة الحضور في حياته عبّر عنها بقوله: «أبي والخيل ودبيّ هي ذكرياتي الأولى عن طفولتي» ليندفع بعد ذلك للحديث عن مبلغ عناية والده به كولدٍ مُقرّب يُردفه على خيله، ويأخذه معه في جولاته الصباحية ليغرس في قلبه الإحساس العميق بالمسؤولية، وليكون ذلك هو برنامج الحياة لدى صاحب السموّ في مستقبل الأيام، لينتقل بعد ذلك للحديث عن دروس الصحراء وقوة الإلهام المستفادة من الحياة فيها حيث كان يأخذه والده في سنّ مبكرة حين كان عمره أربع سنوات حيث قضى ثماني سنوات في هذه المدرسة القاسية التي صقلت شخصيته تحت عين والده الحكيم، لتكون المرحلة الثانية هي العيش في المدينة من خلال مخالطة البشر الذين أوجعوا قلب صاحب السموّ حتى صدرت عنه تنهيدة فارس موجوع عبّر عنها بقوله: «ما أقسى البشر، وما أجمل الصحراء!» لينشأ السؤال الغامض الذي يقول: لماذا صدرت هذه العبارة عن صاحب السموّ وهو الذي أمضى كلّ عمره في خدمة وطنه وشعبه؟ ويحظى بأرفع مكانة في قلوب أبناء شعبه الوفي الذين يحبّونه ويعرفون قدره بين رجالات السياسة والحكم، ليختم صاحب السموّ هذا الخيط من التأملات في الماضي البعيد بما افتتح به كلامه حين قال: «أبي والخيل ودبي هي ذكرياتي الأجمل» ولو كان المقام متسعاً لتحدثنا عن عمق الحضور للخيل ودبيّ في حياة صاحب السموّ، لكنّ الإشارة كافية والواقع شاهدٌ على فخامة شأن الخيل ودبيّ في قلب صاحب السموّ ووجدانه الفيّاض بالحب والوفاء. أما القصة الثانية فقد اشتملت على الدروس العميقة للسياسة التي كان ينتهجها المغفور له الشيخ راشد بن سعيد، حيث قصّ علينا صاحب السموّ طرفا ماتعا من تقاليد الحكم في إمارة دبيّ في تلك المرحلة المبكرة من نشأة الاتحاد، حيث ركّز والده على توسيع خور دبيّ ليكون هو نقطة الجاذبية الكبرى في الإمارة، واتخذ مجموعة خطوات عملية جريئة كان لها أكبر الأثر في جميع مراحل التطور التي بلغتها دبيّ في مسيرتها الزاهرة بحيث إنّ كلمة (باني دبيّ) هي استحقاق تاريخي لذلك المؤسس الكبير الذي تدهشنا تفاصيل الحديث عن نشاطه الدؤوب الذي كان يبهر المهندسين، ويُشكّل لديهم قدوة نادرة المثال في المتابعة والتنفيذ وبأخلاق رفيعة المستوى وتوجيهٍ في غاية الحكمة واللطف والحزم والمحبة، ليعبر صاحب السموّ عن عمق التأثير الذي تركه والده في شخصيته بقوله: «تعلّمت من راشد أن القائد هو الشخص الأكثر نشاطاً، والأقدر على تنفيذ المشاريع بكل كفاءة» وليعزو كل مظاهر النجاح في مسيرة دبي إلى مجموعة القيم القيادية والإدارية التي تبلورت على يدي الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، وبحسب عبارة صاحب السموّ فإنّ: «أحد أهم أسرار تفوّق دبيّ هي القيم التي أرساها الشيخ راشد في منظومة الحكم». ثم كانت خاتمة الذكريات مع لحظات الوداع الصعبة التي تحكي رحيل طيب الذكرى الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، حيث تعجز الكلمات عن التعبير في هذا المقام، وهو ما سطّره صاحب السموّ بحروف تنبض بالحزن في كتابه الجليل (قصتي) وجعله محتوى القصة الثالثة والأربعين بعنوان «رحيل راشد» حيث أبدع في رصد التفاصيل ومراحل التراجع في صحة والده الجليل لا سيّما بعد رحيل شريكة عمره في مسيرة الوطن الشيخة لطيفة بنت حمدان، رحمها الله، فازداد شعوره بالفقد، وظهرت عليه علامات التعب، حتى إذا حانت ساعة الفراق فاضت الروح إلى بارئها تاركة في القلوب غصة وفي العيون دمعة، وعلى صفحات التاريخ أجمل الذكريات، وهو ما عبر عنه صاحب السموّ بقوله: «من أصعب اللحظات وداع من نحبّ. في العاشرة من مساء الأحد السابع من أكتوبر عام 1990 أسلم راشد الروح لبارئها، ورحل عن الدنيا بهدوء وسلام» وبرحيله تفطّرت قلوب الكثيرين، وبحسب عبارة صاحب السمو لم يصدق الكثيرون أنّ راشد الذي كان أباً لهم عبر أكثر من ثلاثة عقود رحل! ويا لصعوبة رحيل الوالد. رحل راشد وترك وراءه بصماته الخالدة على كل زاوية وحجر في دبي، دبيّ التي أشرف على بنائها بنفسه والتي ستظل خالدة الذكرى في ذاكرة شعبه وبلاده إلى الأبد، ليختم صاحب السموّ هذه الفيوض من الذكريات الشجية بكلمة تفيض حزناً وتأثراً ووفاءً لهذا الوالد العظيم حين قال: «من أصعب اللحظات وداعُ من كان سبباً في وجودك، سبباً في وجود وطنك» ولتظل ذكرى راشد بن سعيد علَما منصوباً ينادي أبناء الوطن: حيّ على البناء، حيّ على إعمار الوطن، رحمه الله، وأكرم نزله. طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :