إن الله يحثنا على ما هو أهم وأرقى وأصعب من القراءة؛ إنه التفكر فلسنا أمة (اقرأ) فقط، بل نحن أمة (يتفكرون). ولذلك جاء الحض على التفكر في أكثر من عشرة مواضع في القرآن، فالتفكير عملية بيولوجية محتومة على البشر، بل وعلى كثير من الكائنات غيرهم، لكن التفكر هو الذي يميز الإنسان، وعلى أساسه كان تكليف الإنسان وبه يتحقق اختيار المكلف. إن علينا ألا نتورط بتقديس من يقال إنه العالم العلامة، والفاهم الفهامة، والخبير النحرير، والمنظر الخطير، والأديب الأريب وهو خلو من صحة ما يكتب أو يقول، لأن كل ما فعله هو أنه قرأ عددا من الكتب، ثم اعتقد أنه وصل إلى مرحلة الاكتفاء، وظن أنه من المعرفة بمكان بحيث لا يحتاج إلى أن يقرأ أكثر من ذلك، فضلا عن أن يستمع لمن يخالفه، فقد أصبح يكفيه ما تلتقطه أذناه هنا وهناك، والباقي متروك لعقله الفتاك، مع أن أول درس في أخلاقيات القراءة هو التواضع والتوازن ومن دون هذا سيكون الانتقال إلى مرحلة التفكر مستحيلا. إن طبيعة التفكر تقتضي النهم الدائم والشك الدائم أي تمحيص ما يقرأ والتدقيق في معناه وتدبر دلالاته وتقليب الأمور بوضع افتراض دائم بأن الحقيقة قد تكون في الجهة الأخرى، أو قد تكون مجزأة في جهات كثيرة أخرى أكثر من أن تحصى، واعتقاد احتمال تفرق الحقيقة سيتعارض مع فكرة الاكتفاء؛ لأنها تقتضي الدعة والتسليم، والتفكر فيه شيء من القلق، بل كثير من القلق أحيانا. إن علينا أن ندرك في النهاية، أنه لا خير في قراءة لا تجعلنا نشتبك بها مع الحياة، نعم جميل أن نقرأ من أجل المتعة أحيانا، لكن يجب أن نعلم أن القراءة المريحة خيار الكسالى أو السذج الذين لا يريدون أن يخرجوا من صدفاتهم المريحة، ولا يريدون أن يتعرضوا لأفكار تنفض الغبار عن طاولاتهم الفكرية، إننا نقرأ لنعيش بشكل أفضل، ولنعبد الله على وجه أكمل، ولنعمر الأرض كما أراد لنا أن نفعل، وهذا السعي والدأب والحراك يقتضي أن نسير سيرا فكريا واعيا متدبرا لا سيرا جسديا وسعيا ماديا فقط. إنه من الضروري أن يفهم المعلمون والمتعلمون في جميع المراحل التعليمية أن القراءة وسيلة لتوسيع أفق الإنسان في سبر غور المعرفة وعالم الأفكار والغموض، وأن القراءة كالتفكير بواسطتها يمثل القارئ الأفكار والمفاهيم التي تبثها المادة المقروءة ويعيد صياغتها بعد مزجها بخبراته وتجاربه، ويمثل الشك والرغبة في إثارة الأسئلة بداية هذه العملية التي تبقى مستمرة ما دام الفرد مستمراً ومواظبا على عملية القراءة. كما أن القراءة كالتفكير فيها يهتم القارئ ويأخذ باعتباره السياق العام للصفحة الواحدة أو المقطع الواحد وما يحتويه من عناصر وأمور ومشكلات محاولا تتبع الأحداث في المادة المقروءة للإمساك بالخيط الذي يوصله إلى الفهم الصحيح في نهاية المطاف. وبهذا المعنى تصبح القراءة عملية عقلية تمثل عملا لا قيمة له إذا لم تتحرك قوى وفكر القارئ في فحص وتحسين أفكاره وحياته بشكل دائم ومستمر. لقد أدى تشعب الحياة وتعقد ميادينها وكثرة علومها من جهة، وزيادة الوعي بالحقيقة التي تؤكد أن مجرد فهم الصفحة المكتوبة لا يمثل النضج في القراءة من الجهة الأخرى، إلى زيادة الحاجة إلى القراءة الناقدة والتحسس بدورها الفعال في حياة القارئ، فأصبح القارئ الجيد تبعا لذلك، ليس هو القادر على القراءة فحسب، بل هو الشخص الذي يعرف كيفية استخدام ما يقرأ. وعلى هذا الأساس اعتبر تدريس القراءة الناقدة واحدا من الأهداف الرئيسة التي يسعى لتحقيقها العديد من المدارس في دول العالم المتقدم. إن تنمية القراءة الناقدة لكل قارئ، وفي المراحل التعليمية الأولى وما بعدها مطلب مهم للأجيال القادمة وهي تعتمد بشكل رئيس على المعلم والأساليب التي يستخدمها.
مشاركة :