الحياة الأسرية بين المثالية والواقعية

  • 11/1/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يبالغ بعض الوعاظ والخطباء والموجهين في إبراز الجوانب المثالية في الحياة الزوجية، وتراهم يستدلون ويستشهدون في كثير من الأحيان بالنصوص التي تبين بعض الصور المثالية للحياة الزوجية ومعاملة الزوجين بعضهما، دونما التطرق إلى بعض الصور الواقعية لحوادث وقعت في تلك الفترة، ولربما لنفس الأشخاص، تؤكد وقوع بعض الإشكالات أو المشكلات التي لا يخلو منها بيت من البيوت، فنبينا وحبيبنا وقدوتنا وإمامنا وأسوتنا لم يخلُ بيت الزوجية لديه من أمور استدعت أحياناً أن يعتزل أزواجه شهراً، فقد ثبت حديث اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في الصحيحين من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، وسبب اعتزاله ما وجد في نفسه عليهن، ففي رواية البخاري بلفظ: ما أنا بداخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن. ورواية مسلم: وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن. وأما سبب غضبه عليهن فقد اختلفت فيه الروايات، فذكر بعضهم أنه بسبب إفشاء حفصة إلى عائشة سراً كان النبي صلى الله عليه وسلم استكتمها إياه، ففي صحيح البخاري: فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة، والحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة فسّره بعضهم بما ورد في قصة العسل وهي في الصحيحين، وفسره آخرون بإتيانه جاريته مارية القبطية في بيت حفصة، وقد رواها البيهقي، والدارقطني، والطبراني في الأوسط والكبير. وذكر آخرون أن سبب غضبه عليهن ثم اعتزالهن ما ورد من مطالبتهن إياه بالنفقة، وقد جاءت بذلك رواية جابر في صحيح مسلم، وقد ذكر غير ذلك من أسباب. قال الحافظ في «الفتح»: ويحتمل أن يكون مجموع هذه الأشياء كان سبباً لاعتزالهن، وهذا هو اللائق بمكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وسعة صدره، وكثرة صفحه، وأن ذلك لم يقع منه حتى تكرر موجبه منهن صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن. انتهى. وغير بعيد ما لقيته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك التي مرضت عائشة -رضي الله عنها- بسبب تأثير تلك الإشاعة الكاذبة، فاستأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم- في الانتقال إلى بيت أبيها، وانقطع الوحي شهراً، عانى الرسول -صلى الله عليه وسلم- خلاله كثيراً، حيث طعنه المنافقون في عِرضه وآذوه في زوجته، ثم نزل الوحي من الله موضحاً ومبرئاً عائشة -رضي الله عنها -. ومع ما يحدث في داخل بيوت الزوجية كانت ظروف الحياة والمعيشة حينها شاقة ومتعبة، ففاطمة -رضي الله عنها- شكت ما تلقى في يدها من الرحى، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- تسأله خادماً، فلم يجبها لطلبها. وأسماء بنت أبي بكر تزوجها الزبير وكان فقيراً وكان له فرس تسوسه وتحضر له النوى فوق رأسها من مسافة ثلثي فرسخ أي ما يقارب خمسة كيلومترات، حتى أهدى لها أبوها خادماً، فقالت فكأنما أعتقني، والأمثلة في ذلك كثيرة ومتعددة. وهذا عمر بن الخطاب يقول: ليس كل البيوت يُبنى على الحب، فليست الرومانسية التي يصورها بعض الموجهين للمتزوجين هي كل حياتنا أو كامل الصورة، وما أجمل أن يعنون البخاري في صحيحه في كتاب النكاح (باب المداراة مع النساء)، فحري أن يتم عرض تلك الصور الواقعية من جميع جوانبها، فحياة السلف وبالأخص في العصور الثلاثة الأولى حوت كثيراً من التفاصيل التي تصلح شواهد يستدل بها على أن استصحاب الواقعية في الخطاب الموجه والواعظ يجب أن يرسم صورة واضحة لدى الزوجين ليعرفا أن المثالية ليست أمراً متحققاً في الحياة الزوجية، وأنه ليس هناك وصفة جاهزة تصلح لعلاج كل المشكلات الزوجية، وأن الإبقاء على الإطار العام للعلاقة وعدم الاستعجال في اتخاذ قرار حاسم في الأمور التي تمر بها حياة الزوجين أمر مطلوب، فحياة السابقين كانت تسير بشكل متوازن بين المثالية والواقعية التي بموجبها يحصل التوازن المطلوب. فالرابط الذي يجمع بين الزوجين وهما نواة الأسرة وصفه الله عز وجل بقوله (وأَخَذْن منكم ميثاقاً غليظا)، وفُسر الميثاق بأنه هو الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وهذا يعني أن رابط الزوجية هو إطار عام يربط بين الزوجين، ونصوص الشارع الحكيم في هذا الأمر منها ما هو عام يتحدث عن هذا الإطار والجوانب العامة التي تحيط به، وبين أحكام خاصة تتعلق بأمور بعينها مثل أحكام النكاح أو الطلاق أو الرجعة أو الميراث أو الرضاعة ونحوها، ومدار حديثي هنا ليس جوانب الأحكام، وإنما الإطار العام الذي يتحدث عن العلاقة الزوجية التي وصفها الله بقوله (وجعل بينكم مودة ورحمة)، فهي حياة بين طرفين قد يعتريها ما يعتريها من أحوال وعوامل تؤثر فيها إيجاباً وسلباً، الأمر الذي تؤكده الوقائع والأحداث، وهذا يعني أن يتم التعامل معها بواقعية وليس بمثالية، فليست حياة كل زوجين هي صورة طبق الأصل من حياة الأزواج الآخرين، وليس لتلك الحياة وتيرة واحدة تسير عليها، ونستطيع أن نقرب صورة هذه الحياة بأنها لا تختلف عن واقع الأحوال الجوية، فهي تدور ما بين لطيف ومعتدل إلى مائل للحرارة أو البرودة إلى ملبد بالغيوم ومصحوب بعواصف وأعاصير، بل وفي بعض الأحيان نستعير لوصف الحياة الزوجية بعض عبارات الأحوال الجوية فنقول حياتنا الزوجية بين مد وجزر، أو نقول الجو غائم أو يرعد ويبرق، فهذه الأوصاف تقرب لنا الصورة، ولربما ترددت عباراتها في حياتنا كثيراً، فمن حيث العموم فالأجواء غير مستقرة طوال العام على وتيرة واحدة، وكذا الحياة الزوجية، ومن حيث الوصف الخاص فلكل حال من الحالات الجوية والزوجية متغيراتها التي تخصها، ومع ذلك فالتوازن مطلوب، وبخاصة أن شبابنا المتزوج حديثاً خرج من بيت الأبوين وهو محاط بالرعاية الكاملة وخدمة الخمس نجوم إلى موقع المسؤولية والحياة باستقلالية لها متطلباتها وعليها تبعاتها، ولابد حينها من التعامل بواقعية، وهذا بلا شك لا يُلغي الرومانسية التي لطالما حلم بها الطرفان قبل زواجهما.

مشاركة :