تأخرنا كثيرا في العقل العربي والإسلامي على مستوى بناء شخصية العقل الاستقصائي المتطلع، فتقدمت علينا الأمم الأخرى، وقدمت نماذجها ومبتكراتها للعالم، في الوقت الذي تخوفنا نحن من الخروج من الصندوق. بعد السقف القديم الذي بناه الحوار بين هيرقليطس وبارمنديس، حول منطقية الأشياء وحدوث الحوادث ومحاولة تفسير ماهية الكينونة، بنى أرسطو ومن كان قبله أمثال سقراط ومن جايله مثل أفلاطون، وغيرهما، كثيرا من النظم الفكرية التي أرادت هي أيضا وضع لمستها في مسيرة البشرية وتنويرها، إذ أدى ذلك النقاش أو الحوار الفكري إلى تألق الفكر السقراطي في مراحله المختلفة، وليتبعه ظهور المدرستين العظيمتين في الفلسفة، والتي مثّل أولاها أفلاطون بالمدرسة المثالية الخيالية التي نتجت عنها كتب مهمة مثل الجمهورية، ومحاوراته الشهيرة مع سقراط، ورجل الدولة، وأيون وغيرها، إذ أسس أفلاطون الفلسفة المثالية وعرّف الفلسفة بأنها السعى الدائم إلى تحصيل المعرفة الكلية الشاملة التي تستخدم العقل وسيلة لها، وتجعل الوصول إلى الحقيقة أسمى غاياتها، وأوجد ما عُرف من بعد بطريقة الحوار التي كانت عبارة عن دراما فلسفية حقيقية، عبَّر خلالها عن أفكاره عن طريق شخصية سقراط الذي لم يترك شيئا مكتوبا بخلاف أفلاطون الذي ينسب إليه نحو أربعين كتابا، منها 27 محاورة تقول المصادر إنها موثوقة، تألقت فيها الحوارات الأولى مع سقراط، أوضحت نظريته في الصور المعقولة أو المُثل التي هي أساس فلسفته. وتُميّز الميتافيزيقا الأفلاطونية بين عالمين: محسوس، وهو عالم التعددية الذي أطلق عليه عالم الصيرورة والفساد، ويقع بين الوجود واللاوجود، ويرى انه منبع للأوهام، لأن حقيقته مستفادة من غيره، من حيث كونه لا يجد مبدأ وجوده إلا في العالم الحقيقي للـمُثُل المعقولة التي هي نماذج مثالية تتمثل فيها الأشياء المحسوسة بصورة مشوَّهة. ذلك لأن الأشياء لا توجد إلا عبر المحاكاة والمشاركة، والعالم الثاني هو عالم المثالية العالم العلوي، المرتبط بالترتيب والتنظيم والاتزان، وهو العالم الذي لا يمكن الوصول إليه إلا خلال سمو النفس البشرية، وتحررها من العالم المادي، ليعيش في حياة الروح الخالدة. على الجانب الأرسطي برزت المدرسة الثانية الواقعية التي نتج عنها ما يمكن وصفه بأحد أهم منجزات الفكر والفلسفة على الإطلاق، تَمثّل فيما أطلق عليه «أورجانون»، أي الأداة، وهي أسس المنطق السقراطي، وكل ما تناوله من مؤلفات في هذا الجانب، والتي تقوم على الاستدلال بوجود برهان على وجود أو حدوث الشيء. «وكانت تلك المؤلفات تبحث عن موضوع الفكر الذي هو الأداة أو الوسيلة للمعرفة، إذ كان أرسطو أول فيلسوف قام بتحليل العملية التي بموجبها يمكن منطقيّا استنتاج أن أيّ قضية من الممكن أن تكون صحيحة استنادا إلى صحة قضايا أخرى، فقد كان اعتقاده أن عملية الاستدلال المنطقي هذه تقوم على أساس شكل من أشكال البرهان أسماه القياس. إذ في حالة القياس، يمكن البرهنة أو الاستدلال منطقيا على صحة قضية معينة، إذا كانت هناك قضيتان أخريان صحيحتان، ومثال ذلك: كل إنسان فان، وسقراط إنسان، إذن سقراط فان»، وهذه لمحات مما ذكره وألمح إليه سمير شيخاني في كتابه «صانعو التاريخ». لقد أدى هذا الحوار والتباين بين معلم أفلاطون سقراط، والتلميذ أرسطو، جدلا حول العالم وموجوداته، إلى بناء سقف جديد للفلسفة والفكر الإنساني، واستطاع كل منهما التحول بالفلسفة والحياة الإنسانية إلى مرحلة جديدة، بنى عليها آخرون طريقة جديدة أيضا لرؤية العالم وكل الأشياء فيه، وهنا تكمن أهمية علم الفلسفة، كعلم باعث ومحرض على الابتكار، والخروج من نمطية التعريف الأحادي للأشياء، فالفلسفة تمثل دعوة صريحة للتمرد على التفسير الواحد للأشياء وماهيتها، وهي بحث استقصائي دائم عن المعرفة، تأخرنا كثيرا في العقل العربي والإسلامي على مستوى بناء شخصية العقل الاستقصائي المتطلع، فتقدمت علينا الأمم الأخرى، وقدمت نماذجها ومبتكراتها للعالم، في الوقت الذي تخوفنا نحن من الخروج من الصندوق، بل ومن محاولة فتح ثقب صغير في جداره، وهو ما يعبّر عنه خوفنا الدائم أيضا من استكشاف المجهول، وتفضيل الإيمان بالمنقول كمّا لا كيفا على حساب التجربة والبرهان وإعمال العقل، ليبقى ذلك كإحدة مآسي العقل العربي والإسلامي.
مشاركة :