هناك مقولة أنه «لا يتعامل التخطيط طويل المدى مع القرارات المستقبلية وحسب، بل مع مستقبل القرارات الحالية أيضاً». وملامح التخطيط الإستراتيجي الناجح في عصر التحول الرقمي هو تبني الإستراتيجيات الرقمية بدلاً من الإستراتيجيات التقليدية. والإستراتيجية الرقمية، بمفهوم مبسط، هي إستراتيجية، تعتمد على استخدام التقنية، لتحقيق أهداف المنظمة ولتحسين الأداء بها، وقياس ذلك من خلال مؤشرات أداء تتسم بتحقيق عناصر التنافسية العالمية. ومن المتوقع، مستقبلاً، بأن تكون جميع الإستراتيجيات رقمية، وذلك حسب ما يتوجه إليه العالم اليوم في التطور المذهل للتقنيات المستخدمة بجميع الخدمات اليومية للأفراد وللمؤسسات. وحين تعتمد أي منظمة إستراتيجيتها الرقمية حديثاً، غالباً يتطلب ذلك تغييرات قد لا تتماشى مع إستراتيجيتها التقليدية السابقة. وذلك لأن الإستراتيجية الرقمية تستلزم بناء ووجود أنظمة وخدمات تقنية حديثة تساعد على تحقيق أداء أفضل للمنظمة. كمثال، أن تتبنى المؤسسة أنظمة الأمن السيبراني للحماية وأنظمة ذكاء الأعمال وخوارزميات الذكاء الاصطناعي للمساعدة في تحليل البيانات الضخمة والتنبؤ بالنتائج المستقبلية للمساعدة في اتخاذ القرارات الإستراتيجية والتشغيلية في المنظمة. وكذلك يتضمن اعتماد المنظمة إستراتيجية للبيانات، تشمل إدارتها وحوكمتها وجودتها وسياسة الوصول إليها وتحقيق أمن المعلومات. وأيضاً الإستراتيجات الرقمية قد تساهم في أن تبدأ المنظمة في الاعتماد على المنصات التفاعلية أو التجارة الإلكترونية أو وسائط التواصل الاجتماعي social media في التسويق لمنتجاتها وخدماتها، وأيضاً للترويج لإنجازاتها ونجاحاتها، كمكسب إستراتيجي بعيد المدى، في ظل التنافسية بالسوق، وغيرها من الأمثلة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن وجود الإستراتيجية الرقمية ليس فقط يساعد على تقييم وتحسين واستمرارية جودة العمل من خلال استخدام تلك الأنظمة والتقنيات الحديثة، بل ويعمل أيضاً على تبني وتحقيق المعايير الدولية لمؤشرات الأداء الرئيسية، سواء الإستراتيجية أو التشغيلية، مما يعزّز بقاء الوطن الغالي دائماً في المراكز المتقدمة بمؤشرات التنافسية الدولية. وتسارع التقنيات يتماشى مع مفهوم الإستراتيجيات الرقمية، وذلك لأن تلك الإستراتيجيات تتمتع بالمرونة الكافية لتبنى الأحدث، والمتأخرين عن مواكبة تسارع التقنيات قد يعانون من التبعات التي تحد من نجاح أعمالهم ومن الاستمرارية والاستدامة في عصر التحول الرقمي. كما أن مواكبة تسارع التقنيات تعزِّز من نجاح تحقيق الأهداف المرجوة في خارطة عمل المنظمات، وتعزِّز كذلك من المتابعة الفعَّالة لتقدّم الخطط التشغيلية لمشاريع تلك المنظمات، من خلال وجود لوحات تشغيل، كجزء من تقنيات ذكاء الأعمال، تمكِّن متخذي القرار من معرفة كافة نقاط القوة والنجاح، وأيضاً مواطن المخاطر والمشكلات التي يجب معالجتها. والمتأخرين عن مواكبة التقنيات قطعاً سوف يتأثرون بعدم وجود تلك المزايا عند اتخاذهم للقرارات الإستراتيجية والتشغيلية في مؤسساتهم، مما يزيد من نسبة المخاطر للمنظمة. وقد نتج عن التحول الرقمي وجود احتياجات هائلة في المعرفة والمهارات التقنية في سبيل تحقيق الطموحات والأهداف الإستراتيجية المطلوبة لدى المؤسسات. وأدى ذلك إلى بذل جهود كبيرة من أجل التوازن بين تحقيق تلك الأهداف وضمان وجود الخبرات والمهارات الكافية واللازمة لتحقيق التحول الرقمي بشكل فعَّال. والحل المناسب لتحقيق هذا التوازن والتغلب على هذا التحدي هو تطبيق «مؤشر تنمية المهارات» أو ما يُعرف بـ Skills Development Index، وذلك ليتمكّن العاملون في المجال التقني من اللجوء لتصنيفات وأولويات للمهارات التي يجب أن يكتسبوها، كمسارات في التحول الرقمي، من أجل إنجاح المبادرات وتحقيق الإنجازات والأهداف الإستراتيجية المطلوبة. ولتأهيل الكفاءات ورفع الوعي التقني، يتم وضع خطط مُحكمة مع التواريخ المتوقعة لحصول العاملين التقنيين على التدريب اللازم والشهادات المعتمدة في المسارات التقنية ذات الصلة. كما أطلقت هيئة الحكومة الرقمية مؤخراً برنامج تطوير القدرات الحكومية الرقمية »قدرات تك» للمساهمة في تطوير الكفاءات الوطنية وتمكين القطاع الحكومي من الوصول لأعلى مستويات النضج الرقمي بالتعاون مع وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات والشراكة مع عدد من كبرى الجامعات العالمية. كما قامت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات بإطلاق برنامج «المهارات الرقمية» للقطاعات، وأول مراحله هي بالتعاون مع وزارة الصناعة والثروة المعدنية في رحلة التحول الرقمي بقطاع الصناعة والتعدين. ومن الجدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية حلّت في المرتبة 66 عالمياً في مؤشر «الابتكار العالمي» من بين 131 دولة للعام 2020م. وقد تحقق ذلك التقدم من خلال نجاح المملكة في تمويل الابتكار وتطوير آليات التمويل القائمة عليه. وقد تم القياس الدولي عن طريق عدة مؤشرات منها مؤشر مخرجات الابتكار وفروعه، وهي المخرجات المعرفية والتكنولوجية، والمخرجات الإبداعية أيضاً، في مجال التقنية وغيرها من المجالات. وذلك لأن الإبداع والابتكار هما ركائز لازدهار الوطن وسُبل ناجحة لتخطيط وتحقيق الحلول المستدامة المستقبلية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولذلك، فإن تعزيز الثقة والقدرات والإبداع لدى الأجيال القادمة هو تخطيط إستراتيجي، واستثمار ذكي وناجح للمملكة العربية السعودية، في ظل التحول الرقمي، تماشيًا مع رؤية 2030 . ** ** - خبيرة تقنية وتخطيط إستراتيجي
مشاركة :