جائحة التغير المناخي أشد فتكا من الحروب تأثيرات التغير المناخي ليست مجرد "ثرثرة إعلامية"، لقد بدأت بالفعل وهي أحد العوامل الرئيسية وراء النزاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث تسبب الجفاف في نزوح جماعي من الأرياف إلى المدن. قسوة الطبيعة ومن نكد الدنيا على شعوب المناطق الفقيرة أن تلج معارك لم تخترها، وذلك مع اجتياح ظاهرة التغير المناخي التي أدّت إلى أضرار وكوارث بيئية وزراعية، تسببت بدورها في مشاكل معيشية واجتماعية تتناسل في كافة الاتجاهات. والكوارث لا ترث إلا الكوارث كما علّمنا علم الاجتماع الميداني. هذه تقارير وكالات الأمم المتحدة توضح أن تغيّر أنماط هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وزيادة ظواهر الطقس المتطرفة قد أسهمت في تفاقم انعدام الأمن الغذائي والفقر والنزوح والنزاعات في معظم بلدان العالم الثالث، ومن بينها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. مشهد مفزع ما تعيشه بلدان كثيرة في العالم؛ فعلى صعيد القارة الأفريقية وحدها قالت جوزيفا ليونيل كوريا ساكو، المكلّفة بملفات الاقتصاد الريفي والزراعة في مفوضية الاتحاد الأفريقي، إنه “بحلول العام 2030، تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 118 مليون شخص يعانون من الفقر المدقع سيكونون عرضة للجفاف والفيضانات والحر الشديد في أفريقيا، إذا لم تتخذ تدابير استجابة كافية”. المنطقة العربية ليست استثناء، بل هي في قلب هذه الظاهرة المناخية الخطيرة، من العراق الذي يضربه الجفاف وانخفاض مستوى المياه في الأنهار الرئيسية، إلى المغرب الذي عرف خلال القرن العشرين أكثر من عشر فترات جفاف رئيسية، مرورا باليمن الذي يعاني قحطا وجفافا وصل إلى حد المجاعة فوق أزماته السياسية التي تسببت فيها الميليشيات الحوثية. أما في السودان فقد أعلنت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة يوم الثلاثاء الماضي أن السيول والفيضانات في جنوب السودان أثرت على أكثر من 700 ألف شخص وأنحت باللائمة على تغير المناخ في أسوأ سيول تجتاح هذا البلد الأفريقي منذ نحو 60 عاما. سوريا والأردن وتونس وليبيا ليست أفضل حالا من هذه البلدان. وزادت على هذه الصعوبات المناخية مشاكل وأزمات اجتماعية نتجت في معظمها عن قسوة الطبيعة التي أفرزت واقعا معيشيا مترديا. وبعيدا عن الصراعات السياسية والعرقية والطائفية فإن المناخ الذي يقسو على أبنائه سيولّد حتما ردود فعل سلبية وانتكاسات سلوكية كما هو الحال في بلد مثل العراق، وفق دراسة أجرتها منظمة دولية حول أطفال العراق الذي يحتل المركز 61 عالميا من حيث تأثير التغيّر المناخي على الأطفال. وفي هذا الصدد أكدت منظمة “أنقذوا الأطفال” في تقرير على موقعها أن أزمة المياه في العراق وشمال شرق سوريا تتشكل في كل ركن من أركان حياة الأطفال، حيث أن الجفاف وانخفاض مستويات المياه في الأنهار الرئيسية وعدم القدرة على صيانة البنية التحتية لمحطة المياه المتضررة جعل المياه بعيدة عن متناول الملايين. ويواجه العراق -وفق تقارير دولية- تحديات عديدة يفرضها تغير المناخ، كارتفاع درجة الحرارة وقلة الأمطار وشح المياه وملوحة الأراضي وزيادة نسبة العواصف الرملية والترابية والكوارث الناجمة عنها، مما يعرقل التنمية بعد انتهاء مرحلة النزاع، ويعيق جهود الحد من الفقر وتعزيز سبل العيش وتخفيف الصراع للحصول على الموارد الطبيعية. ينطبق النموذج العراقي على معظم البلدان العربية، خصوصا تلك التي عاشت ما يعرف بموجة “الربيع العربي” والتي عرفت مشاكل اجتماعية ناجمة بالأساس عن صعوبات معيشية زادت من حدتها ظاهرة النزوح من الريف إلى المدينة وما سببته من ازدحام سكاني مشوب بالفقر وتنامي الجريمة وغير ذلك من المشاكل الاجتماعية. فقدان الإنسان لبيئته الطبيعية في ظل تفاقم التغير المناخي الذي يدفع الناس نحو الهجرة والبحث عن فرص عيش ملائمة، يجعل الواحد أكثر شعورا بالغربة والانبتات وفق دراسات المحللين النفسيين والاجتماعيين، وهو ما يزيد من عدوانيته وعدم تقبله للآخر. وعادة ما يتمركز سكان الأرياف في ضواح على أطراف المدن التي نزحوا إليها فينشأ نوع من العصبية المناطقية أو القبلية أو الطائفية، وهنا تبدأ سلسلة المشاكل الاجتماعية وتفاعلاتها مع الحياة السياسية. هذه الخوارزمية والمتاهة العجيبة في تتبع أصل الظاهرة، تحيلنا إلى أن أصل المشاكل يعود في مجمله إلى حالة التغير المناخي. قد تبدو هذه القراءة تحمل الكثير من المبالغة والتأويل، لكن المتتبع لأسباب نشوئها يقف عند حقيقة مفادها أن قسوة الإنسان من قسوة الطبيعة.. لا بل العكس تماما. بات من المؤكد أن جشع الرأسمالية الصناعية واستهتار البشرية بقيمة البيئة وضرورة الحفاظ على المناخ هما سببا هذه الكارثة التي سوف يجتمع لأجلها زعماء العالم بعد أسابيع قليلة، لكن هذه الكارثة المناخية متعددة المستويات من حيث المتسببين في حصولها، فبالإضافة إلى انخفاض مستوى تدفق نهري دجلة والفرات، مثلا، يأتي سوء الإدارة وإلقاء مياه الصرف الصحي غير المعالجة، مما يؤجج حالة طوارئ صحية غير مسبوقة. واضح أن الوعي البيئي والمناخي لا يدخل في صلب الثقافة العربية رغم الأصول الريفية “النقية” لمعظم السكان العرب، ذلك أن المسألة في غاية التعقيد من حيث الخيارات التربوية والسياسية، إذ لا زالت كلمة “الخضر” تثير السخرية في الحياة الحزبية العربية. تأثيرات التغير المناخي ليست مجرد “ثرثرة إعلامية” كما يظن البعض، لقد بدأت بالفعل، وهي أحد العوامل الرئيسية وراء النزاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث تسبب الجفاف في نزوح جماعي من الأرياف إلى المدن. الحروب القادمة لن تندلع بسبب خلافات سياسية وغايات توسعية سيادية كما هو الأمر بالنسبة إلى الاستعمار الكلاسيكي بل بسبب المياه والامتيازات المناخية، إذ سوف يكون البقاء لصاحب المياه الأوفر والطقس الأنقى والمناخ الأنسب. الحقيقة أن شعوبنا تأمل في “ربيع عربي من نوع آخر”.. ليس ربيعا سياسيا بل “ربيع مناخي” يتعلق بمستقبل صحة أطفالنا بعد التعافي من جائحة كوفيد – 19. حكيم مرزوقي كاتب تونسي
مشاركة :