يقول ماكس بيكارد: «الصلاحية الوحيدة لإنسان اليوم هي خبرته الذاتية». تتّسع هذه الخبرة الذاتية إذا ما كانت وقودُ شاعرٍ يُمارسُ خلْقًاً شعريًّأ مُغايِرًا عن السائد، وقد يدخل فيها المُهْمَل ويتحوّل إلى بارزٍ ولافت، وتُستبدلُ من خلالها المواقع، فينتقلُ الهامش إلى متن. بعبقريةٍ نادرة، والتماعاتٍ ذكيّة، يلتقطُ جاسم الصحيّح هذا المُهمَل والهامشي من تفاصيل الحياة اليوميّة، ويحوّله إلى صورة بلاغية فاتنة، ودهشة لغويّة ساحرة من رؤيا الشعر وفتنته وتراكيبه التي تتغذى على تفاصيل حياتية نظنّ أنها عابرة، وممارساتٍ نعتقدُ أنّها خارج إطار التفكير الإنساني. لكنّ جاسم الصحيّح يرى فيها فضاءات شعرية خصبة وواسعة، ربّما ضاقت في لحظتها الحياتية لأن تُذكر حتى على هامش الحياة، فتنزاحُ لدى الصحيّح من حالتها الرتيبة الفائضة عن الحاجة الذِّكْر، إلى صورة مثيرة قد تكون فاتحة نص شعري، أوذروة فنّيّة فيه. تنفلتُ الحالاتُ التي يلتقطها جاسم الصحيّح من وظيفتها الحياتيّة، وتَستبدِلُ أحاسيسها المادية إلى أحاسيس شعريّةٍ فائضة. «المجاز حالةٌ مُكثّفةٌ تختزل داخلها أنساق ذهنيّة خفيّة، لذلك يمكننا عبر تفكيكه كشف الاستراتيجية التي يتحرّك من خلالها النسق» أوعلى نحوخاص، كشف الاستراتيجيّة التي يتحرّك من خلالها الأديب والشاعر. بالذهاب إلى شعر جاسم الصحيّح يُلاحَظ أنّ إحدى اشتغالاته الاستراتيجية في تكوين نصه الشعري هي تمثلات وتمظهرات الحياة اليوميّة. ماذا يُفيد؟ أن يقول أحد ما في حديثه اليومي: لم تستطع يدي الوصول لأوسط ظهري لأحكّه بأظافري. لكنّ الصحيّح يقتبسُ هذه الحالة الهامشية ويوظّفها في سياق قلقه الشعري، ويحوّلها من حالة مادّيّة إلى حالة مجازية بالتماع ذكي، في عجينته الشعرية التي يقارب فيها موضوع الشك واليقين. يقول في نص «ماوراء حُنجُرةِ المُغنّي»: «ليتَ اليقين الذي طالت أظافِرُهُ / يحكُّ ما لم أطَلْ من ظهر وسوستي». انتقالٌ بارعٌ من صورةٍ هامشية في ممارساتنا الحياتية إلى صعودٍ جماليّ يشعرن اللحظة المُقتبسة من السلوك اللحظي والعابر. هي «اللغة عشيقة الشاعر، صديقة المُخيّلة، سرير الجمال. عندما يتم التعامل معها شعريًّا، فإنّها تُصبح عنصرًا جماليًّا مُدهِشًا، وعنصرًا خلّاقًا أيضًا. نحن لا نبدع باللغة فحسب، إنها أحيانًا تُبدع من خلالنا، إذ نستحضر المفردات التي سوف تسعفنا في التعبير، تفرض اللغة نفسها عبر تراكيب وتشبيهات وتجاورات لا تخطر على بال. وقتذاك، علينا أن نحسن التقاط اللحظة». يلتقط جاسم الصحيح لحظته الشعرية من مشهد روتيني، من ممارسات اعتيادية مكرورة كل يوم في البيوت والمجالس... وعلى مكاتب العمل. فنحن لا نذهب لإخبار أحد إلى أننا نقوم بتذويب السُّكر في مشروبنا الساخن، يبدوذلك ساذجًا لودخل حديثنا الاعتيادي أوافتتحناه به... إلا أنّ الصحيح يستحضر لحظته من ذلك المشهد في فاتحة نصّه الشعري «جرحٌ مفتوحٌ على نهر الكلام» ويجاور المفردة بالمفردة، ويصعد بالحالة الاعتيادية إلى فضاءٍ ابتكاريٍّ جديد، ولعلَّها اللغة التي تُبدع من خلاله. يقول: «بمِلعَقَةٍ من القَلَقِ المُحَلَّى أُحَرِّكُ في دمي ضَجَرًا مُمِلَّا». القلقُ معادلٌ للسُّكَّرِ في حالة الذوبان، والدمُ معادلٌ للسائلِ المُذيب. والصورةُ الكليَّةُ هي ذلك المشهد اليومي الرتيب الممِل، لكنها تتجاوزه لتكون اقتناصة لافتتة يفتتح بها الصحيّح نصّه، ويوصله إلى ذراه القلقة. «أنا بعضٌ من الإنسان.. أجري وراءَ بقيّتي لأصيرَ كُلّا عبرتُ على أنايَ عبورَ طيفٍ يكادُ.. ولم يكدْ حتّى اضمحّلّا فـلـم أبـرحْ (أهـيـمُ بـكـلِّ وادٍ) وأزعمُ أنّني من أهلِ (إلّا) سـديـمٌ تـائـهٌ في كُـلِّ شيءٍ إذا ما زِدتُ عِلمًا زدتُ جهْلا». هوتشرّبٌ كُلّي بالقلق وفرطُ اتحاد به لفظًا ومعنىً، وشكلاً وروحًا، وحاوٍ ومحتوى، انطلاقاً من حالة الذوبان الأولى في مفتتح نصه الشعري. تتجلى هذه الالتماعات في نصوصه الذاتية المعجونة من طينة القلق، والمشحونة بفائض التأمل الذي يعبر معه دروب القصيدة كوقودٍ شعري «ووجهي همسُ عرّافٍ قديمٍ تأمّلَ في المدى حتى تملّى». يقول فرناندوبيسوا: «يحلولي التلاعب بالكلمات. إنّها بالنسبة إليّ أجساد يمكن لمسها، حوريات مرئيات، شهويات لا ماديات». التلاعب بالكلمات لعبة جاسم الصحيح التي يجيدها بمهارة عالية، وتكتشف فيها المفردات حيواتها الجديدة المتطوّرة والنامية، وتخرج من حالتها الكسولة والضيّقة إلى متسع مجازي ضاجٍّ وحيوي. فهويذهب إلى لحظة اختماره الشعري ويجسّد فعل القصيدة وطقوسها لديه في نص «في آخر الرمق» مستعينًا بمفردات المطبخ. المجازات تُطهى، الحُب بهار وتوابل، والنص مائدة وطبق. يقول: «أطهوالمجازات من لحمي مُتبّلةً بالحُبِّ ... والكونُ مدعوٌ إلى طبقي». إلى أن يقول: «أدلّلُ الليل بالأنثى الحنون كما يُدلّلُ الشاي بالنعناع والحبقِ». تأتي مفردات المطبخ مرةً أخرى في نصه التأمّلي «حسَب تقويم الغراب»، فالحقيقة لديه شرابٌ مُرّ والمجازُ حلى وسُكّر. يقول: «فإذا تجرّعنا الحقيقةَ مُرَّةً رُحْنا نُحلّي بالمجازِ وقَنْدِهِ». «لقد ظلَّ الشعر عبر القرون يحتفظ بفاعليّة كبيرة، ظلّ رفيقًا للإنسان في جهده العضلي والوجداني والتأمّلي، وعبر رحلته الطويلة من كهفه إلى الحقل، ومن حقله إلى مدينته الصغيرة، ومنها إلى المُدن الكبرى. بدأت مفاتن المُدُن وشرورها تأخذ شكل الغواية التي صار، مع الزمن، من الصعب مقاومتها. هنا أخذَ الشعر يندمج في هذه الحياة المدنيّة التي كانت إلى حد كبير مفتوحة على الريف». الشعر لدى جاسم الصحيح عبور إنساني وعبور تأملي وعبور تاريخي. هذا العبور يستعير مفردات التاريخ والزمن ويستعير مفردات المدينة أيضًا. المدينة هي إحدى غواياته ومفاتنه. حتى أنّ مشهدها المألوف من إصلاحات الشوراع يصبح أحد تمثّلاتها المجازية، وعبوره إلى ذاته في شعره. يقتنص الصحيّح هذا المشهد مُشَعْرِنًا إعادة تأهيل الذات الشاعرة في نصّه «المُقيم في التراتيل» متعالقًا مع مظاهر حركة المدينة. يقول: «هذا أنا شارعٌ سُدَّت منافِذُهُ لكي ُيُعادَ مع الأيّامِ تأهيلي». إلى أن يذهب إلى مشهدٍ مدنيٍّ آخر يرتحل فيه بذاته الشاعرة في تمظهرات المقاهي، فيقول: «أطوفُ بين مقاهي الوهم، تحسبني ألمُّ عُمريَ من عُمرِ (الأراجيلِ)». هذه نماذج قليلة من شعر الصحيح، ومن اليسير الوقوف على نماذج متعددة من شعرنة الحياة اليومية في منجزه الشعري الذي يقوم على اختراق بداهة الأشياء وكسْرِ أُلْفَتِها، وصُنْعِ أُلْفَةٍ مُغايِرةٍ ومُفاجئةٍ لها خارج الاعتيادي والمألوف. الشعرُ سعيٌ دائمٌ إلى اكتشافِ قدراتِ اللغةِ، وتفجيرِ كوامِنها وإمكاناتها كما يشتهي سحرُ البلاغةِ وكما ترغبُ فتنةُ المجاز. الشعر كما يشير إليه جاسم الصحيح نفسه «الشعر أن تُحرِّرَ الأشياء من قيدِ الرتابة». أوكما يقول علي جعفر العلاّق: «قيمةُ الشعر هوأن تنزَعَ عن الأشياء حدودها الواقعيّة وتفجّر فيها الطاقة الإيحائية».
مشاركة :