يرى العديد من الباحثين أن انتشار الجماعات المسلحة غير الحكومية وزيادة قوتها هي إحدى السمات المميزة لحقبة ما بعد الحرب الباردة. ووفقا لـ«ماري كالدور»، من «كلية لندن للاقتصاد»، فإن التأثير المتزايد لهذه الجماعات يمثل عنصرًا حاسما لما وصفته بـ«الحروب الجديدة» في العصر الحديث. وعلى وجه الخصوص، كان الشرق الأوسط شاهدًا على هذه التطورات، حيث لعبت هذه الجهات «دورًا جوهريا» في المنطقة على مدى العقدين الماضيين. ولمناقشة هذا الأمر، عقد «معهد بروكينجز»، بواشنطن، ندوة بعنوان «تطور الجهات الفاعلة من غير الدول ومليشياتها شبه العسكرية في الشرق الأوسط»، أدارتها «فاندا براون»، من مبادرة الفاعلين المسلحين غير الحكوميين بالمعهد، وشارك فيها «بروس ريدل»، مدير مشروع الاستخبارات بالمعهد، و«رانج علاء الدين»، من برنامج السياسة الخارجية بالمعهد، و«ستيفاني ويليامز»، من مركز سياسات الشرق الأوسط بالمعهد. في البداية، أشارت «براون» إلى أن هذا هو «الوقت المناسب» لإجراء مثل هذه المناقشة في ضوء التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط، بما في ذلك الاشتباكات بين المليشيات في لبنان، ونتائج الانتخابات البرلمانية العراقية، التي أتت بالتيار الصدري في حين أن الأجنحة السياسية للمليشيات الأخرى غير الحكومية «ضُعفت مكتسباتها السياسية»، لكنها لا تزال تحتفظ بوجود «قوي» في الشارع. وفيما يتعلق بظهور الجهات الفاعلة غير الحكومية ذات الأهمية الجيوسياسية في الشرق الأوسط؛ أشار «ريدل»، إلى أنها لعبت دورًا مهمًا في المنطقة لعقود من الزمن، وعن «أوجه التشابه والاختلاف» بين الجماعات المسلحة غير الحكومية في تلك الحقبة، والموجودة على الساحة حاليا، أشار إلى حدوث تحول في الاتجاهات الآيديولوجية، حيث قارن جهود بناء الدولة و«القومية» لدى الجماعات الفلسطينية، بالتركيز الديني للعديد من تلك المنظمات الحديثة التي تتبنى الآن الفلسفات الإسلامية الشاملة. وبالنسبة إليه، فإن هذه الجماعات الآن «لها تأثير طاغٍ»، لكنها «لا تحقق أهدافها. وفي ملاحظاته، ناقش «علاء الدين»، دور هذه الجهات في العراق، وبشكل خاص ما حدث في «الانتخابات العراقية»، موضحًا أن هناك «ثلاث نقاط انعكاس رئيسية» يجب مراعاتها بشأن العراق عند التفكير في الأهمية الحالية للجهات الفاعلة غير الحكومية، الأولى، الطريقة التي حلت بها «محل سلطات الدولة الرسمية»، وثانيها، الحرب الإيرانية العراقية، وثالثها، تطوير «فكر إيران المنهجي للتعامل مع هذه الجهات وتعزيز علاقاتها معها»، مشيرًا إلى أنه «يوجد في بعض الأحيان ميل إلى مساواة الدعم الغربي (للجماعات المسلحة غير الحكومية)» باستراتيجية إيران، ولكن في حين أن النهج الغربي تطغى عليه «الانتهازية» بشكل أساسي، فقد طورت إيران نهجًا أكثر تضافرًا، مع «مستويين اثنين»؛ «المنظمات المتحالفة معها، وهؤلاء مرتبطون «آيديولوجيا» بها، والآخرين الذين تعمل معهم خلال «اللحظات العرضية من المصالح المتبادلة والتوافق السياسي». علاوة على ذلك، لفت إلى وجود لاعبين داخل المنطقة لا يزالون «يسعون إلى إقامة دولة خاصة بهم»؛ مثل الأكراد، وهؤلاء يرى أنهم «أكثر قابلية للعمل في إطار المعايير الدولية»؛ كونهم يسعون إلى نيل الاعتراف والشرعية، ومن هنا جاءت رغبة القوى الغربية في دعم المجموعات الكردية، مثل قوات «وحدات حماية الشعب». وبالعودة إلى الوضع الحالي للسياسة العراقية، أوضح أن حرب العراق أدت إلى «انتشار سريع للمليشيات»، التي «ظهرت في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي للبلاد»، حيث نشأ فصيلان بارزان هما «فيلق بدر»، و«التيار الصدري»، ومثّل الأول «مليشيا إلى حد كبير»، فيما برز الآخر كـ«حركة اجتماعية». وفي السنوات اللاحقة، «تطورت» كلتا المجموعتين، وقام التيار الصدري «بالانتقال إلى جهة فاعلة قادرة على تقديم الخدمات»، في حين أن فيلق بدر لم «يتعامل بشكل فعال» مع المجتمع العراقي، وهو ما بدا جليًّا خلال نتائج الانتخابات الأخيرة. وفي ختام تعليقاته، أوضح «علاء الدين»، أنه من المهم الاعتراف بمرونة هذه الجماعات وقدرتها على «ملء الفراغ»، الذي خلفته المؤسسات الحكومية غير الناجحة أو غير الموجودة. ومن هذا المنطلق، أقر بأن المستقبل «لتلك الجماعات»، مشيرًا إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بها أعلى معدل بطالة بين الشباب، حيث «يبحث 3 ملايين على الأقل عن وظائف كل عام، فضلاً عن مستويات عالية من نقص التغذية، وقد خلقت كل هذه العوامل «أرضًا خصبة للمليشيات»، إلى جانب أن المنطقة تضم بالفعل من 100.000 إلى 150.000 مقاتل «لا يخضعون لسلطة الدولة»، وهو ما خلق أيضًا «وضعًا غير مستقر». من جانبها، أشارت «ويليامز»، إلى «تطور نظائر مثل هذه الجماعات في كل من ليبيا ولبنان»، وفيما يتعلق بالأخيرة، أشارت إلى «الدور الذي بات «حزب الله» يمارسه في السياسة الداخلية»، عبر قولها إن «دفاع تلك الجماعة عن الأوضاع الفاسدة يضعها في موضع خلاف مع العديد من المواطنين»، كما أن «مشاركتها في الحكومة»، و«المزايا والصلاحيات المرتبطة بذلك»، و«ضمان التستر على» أنشطتها غير المشروعة، «قد تركت لبنان برمته في وضع غير مستقر». علاوة على ذلك، أوضحت أن «حزب الله» استطاع أن يقوي شوكته في بيئة تعاني من «الضعف الشديد والاختفاء الكامل تقريبًا للدولة»، مؤكدة أهمية أن تكون لبنان قادرة على تقديم كل الخدمات التي يتطلبها مواطنوها، وأنه إذا كان من الشائع الإشارة إلى «حزب الله»، على أنه «دولة داخل دولة»؛ فإن من وجهة نظرها القول إننا شهدنا «تطور دولة داخل شبه دولة»، وهنا «تقصد لبنان»، على الرغم أنها لم تكن متأكدًة مما إذا كان «حزب الله»، سيستمر في السماح بإجراء انتخابات ديمقراطية كونه يخشى أن تتسبب نتائجها في «ظهور انقسامات أعمق؛ نظرًا إلى الحاجة إلى تطبيق مبادئ المساءلة والعدالة للكثير من القضايا العالقة». وفي هذا الصدد، علقت «براون»، أنه من المهم للمجتمع الدولي أن «يضغط من أجل انعقاد هذه الانتخابات، وأن يلقي بثقله لدعم «من يطالبون بالإصلاح»، مع إمكانية فرض عقوبات على الذين «يعرقلون مسار العدالة» عبر «استخدام قانون ماغنيتسكي وتطبيق عقوباته بصورة أكثر انتشارًا». وفيما يتعلق بـ«ليبيا»، أشارت «ويليامز»، إلى أن الجماعات شبه العسكرية المتمركزة هناك «ممولة من الدولة، لكنها ليست خاضعة لسيطرتها بشكل كامل»، وأنه بينما «هناك العديد من الخطط لنزع أسلحتها وتسريح وإعادة دمج مقاتليها في الحياة المدنية»، لم يتم تنفيذ أي منها حتى الآن. وعلى الرغم من أنها أشارت إلى أن المطلب الشعبي لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال ديسمبر ويناير المقبلين بات «واضحًا»، إلا أنه لا تزال هناك «انقسامات حادة». وفي ضوء ما تمارسه هذه الجماعات، فإن «توافر الاستقرار، والأمن»؛ لعقد العملية الانتخابية؛ بات أمرًا مشكوكًا فيه، ما يستلزم إجراء «إصلاح اقتصادي واسع النطاق»، وطرح «خارطة طريق سياسية»؛ لإنقاذ الدولة الليبية من معاناتها». وحول دور الولايات المتحدة في التعامل مع الجهات الفاعلة غير الحكومية ومليشياتها شبه العسكرية في الشرق الأوسط؛ قال «ريدل»، إن واشنطن «لطالما لجأت كثيرًا إلى وصف تلك الجهات وأفرعها المنتمية لها بالكيانات الإرهابية»، وأن هذا الإجراء التوصيفي «سهل اتخاذه، ومن المستحيل التراجع عنه إلا للضرورة»، وسيؤدي بطبيعة الحال إلى «فرض سلسلة من القيود والعقوبات» تحدد ملامح التعامل مع تلك الجهات. واستكمالا للمناقشة، استشهد بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي صنفتها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية عام 1970. ما أعاق سبل التواصل معها، وأثر بالتالي، في مفاوضات السلام بين طرفي النزاع الرئيسيين في المنطقة. وعليه، أكد أنه يجب على واشنطن الحفاظ على قدرة «التواصل» مع تلك الجهات وإلغاء التصنيفات الإرهابية للجماعات أو الأفراد المنتمين إليها لتسريع جهود التفاوض والتسوية حال نشوء نزاع ما، مشيرًا إلى أن قرار عدم تصنيف «طالبان» كمنظمة إرهابية جعل واشنطن قادرة على التحدث معها من أجل ضمان عمليات الإخلاء في أعقاب انسحابها من أفغانستان، وتجنب وقوع كارثة إنسانية. ووافقت «براون» على هذه الرؤية، واصفةً إجراء تصنيف الجماعات بالكيانات الإرهابية بأنه «طوق يقوض سياسة الولايات المتحدة الخارجية». وفي سؤال حول «تأثير اغتيال قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس في قوة المليشيات الشيعية في العراق؛ أكد «علاء الدين»، أن هناك «اضطرابات داخل قوات الحشد الشعبي»، والذي وصفها بأنها «قوات تأثرت بتلك الشخصيات الكاريزمية»، وبالتالي فإن القضاء على زعيمين مثلهما «ألقى بالحشد الشعبي في حالة من الفوضى»، لا سيما بالنظر إلى كون التنظيم غير مستعد لاغتيالهما. واستنادًا إلى وجهة نظر «علاء الدين»، فإن عمليات القتل المستهدف من هذا النوع لا تخلو من العواقب، وأنه «عادة ما يعاني العراقيون في أعقاب تلك العمليات من العواقب»، حيث أصبحت بالفعل «حملات القمع واسعة النطاق» ضد المواطنين العاديين والمجتمع المدني أمرًا مألوفًا باعتباره عملا انتقاميًا للرد على مثل تلك العمليات والاغتيالات. وعلى هذا النحو، أكد أنه في حين أن «آليات التعامل والعقاب الأمريكية واضحة تمامًا لمواجهة أية تهديدات وشيكة، فإن الولايات المتحدة لم «تدرك تمامًا تداعيات هذا المشهد الفوضوي الذي ستخلقه هذه المليشيات على المدى المتوسط والطويل»، مضيفا أن «السياسات المتعلقة بمواجهة تلك الجهات ومليشياتها تميل إلى التغيير بين كل إدارة وأخرى في واشنطن، ويجب أن يكون هناك تحول نحو إطار واضح يضم عددا من المبادئ التوجيهية الأكثر حزمًا لتشكيل ملامح السياسة المستقبلية للتعامل مع هذه الجهات باختلافها. وفي الوقت نفسه، شددت «ويليامز»، على أهمية منع «افتراس الدولة والهيمنة على مقدراتها عن طريق العنف»، وذلك من خلال إجراءات، مثل المراجعة المالية الدولية الأخيرة للبنك المركزي في ليبيا، والتي تهدف إلى تعزيز الثقة في المؤسسات الحكومية، مشيرة إلى أن تعاون بعض الدول بشكل فردي مع جهات فاعلة من غير الدول على أساس ثنائي، يقوض أحيانًا جهود الأمم المتحدة لتعزيز «معاييرها وقيمها»، وبناء مؤسسات دولة تتسم بالقوة والتماسك. وعليه، خلصت، إلى أن هذا «التعاون» يجعل من «الصعب للغاية بناء أرضية تقودنا إلى الانتقال الحقيقي إلى عودة الدولة بكل مفاصلها وكياناتها». وفي سؤال عما إذا كان هناك طرق جديدة تتعامل بها الدول، لا سيما الغربية، مع الجهات الفاعلة من غير الدول وجماعاتها المسلحة ونزع أسلحتها وتسريح وإعادة دمج مقاتليها؛ أشار «ريدل»، إلى أنه في حين أن «روابط الحوثيين بإيران لن تختفي»، فإنها ستصبح «أقل أهمية»؛ لأن «إيران ليس لديها أية سيولة مالية في الوقت الراهن يمكنها استخدامها لجهود إعادة الإعمار هناك». وعلق «علاء الدين»، أنه من الضروري تطوير «نهج مؤسسي لهذه الجهات»، والتي سيكون لديها «عناصر ورموز سياسية ذات ثقل» يمكنها ممارسة الضغط والتأثير في سلوكها وتعزيز التواصل معها. واعتبرت «براون»، أن هذا النهج مهم، مشيرةً إلى وجود اتجاه للتأثير في سلوك تلك الجماعات التي لا يعتبرها الغرب ضمن «خصومه التقليديين». على العموم، قدمت الندوة نظرة عامة عن التطور المستمر والاتجاهات الناشئة بين الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مع التركيز بشكل خاص على لبنان والعراق وليبيا. وخلص المشاركون إلى خطورة مثل هذه الجماعات على المدى الطويل، وأن تأثيرها المزعزع للاستقرار لا يزال يستحق اهتماما كثيرا من صانعي السياسات من أجل مواجهتها، فضلا عن ضرورة فهم ومعالجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية الأساسية التي تسمح لهم بالتطور، وعلى الأخص، الافتقار إلى وجود حكومة قوية وفعالة قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، بالإضافة إلى الحاجة إلى إعادة النظر في الطرق التي تتعامل بها الدول مع هذه الجماعات وفق المبادرات الدبلوماسية التي تشمل تلك الجماعات بنفسها ومموليها ورعاتها.
مشاركة :