«التهديدات الناشئة ودور الجهات الفاعلة من غير الدول في الشرق الأوسط»

  • 2/19/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يُعتبر العنوان المذكور أعلاه أقرب للصيغة البحثية التي لا تتناسب كثيراً مع صيغة المقال الصحفي، إلا أنني ارتأيت استخدامه لكونه هو العنوان الذي طُلِبَ مني أن أتحدث عنه في كلمتي، التي أخذت شيئاً من الطابع البحثي، في افتتاح منتدى مراكش للأمن (10-11 فبراير 2017)، والتي أوردها هنا بعد محاولة إعادة إخراجها، قدر المستطاع، كمقال سلس يطيب للقارئ الصحفي قراءته. التهديدات الناشئة (Emerging Threats): بداية لا بد التأكيد أن موضوع «التهديديات الجديدة الناشئة لا يمس منطقة جغرافية بعينها أو هو شأن خاص بدولة أو مجموعة دول معينة، بل هي ظاهرة عالمية معقدّة، ازداد خطرها على الدول والمجتمعات، أساسا مع تكريس العولمة الاقتصادية، وتدعيم اقتصاد السوق، وعجز المنظمة الأممية عن حل النزاعات الإقليمية والدولية، وازدياد النشاط المشبوه للجمعيات والمنظمات غير الحكومية، وانتشار الاستخدام غير السليم لشبكات الانترنت ووسائل الاتصال الالكتروني.. إضافة إلى ظهور مخططات إقليمية ودولية، بعضها معلن وبعضها الآخر غير معلن، تسعى إلى إعادة صياغة النظام الدولي من خلال التغيير الجيوسياسي القسري في مناطق عديدة، وبالأخص في المنطقة العربية. الجهات الفاعلة من غير الدول (Non-State Actors): وقبل تعريف التهديدات الناشئة في المنطقة العربية، أرجو أن أوضح هنا مفهوم وماهية مصطلح «الجهات الفاعلة من غير الدول»، لما لها من استخدامات غير دقيقة في بعض التقارير والتحاليل السياسية والجيوسياسية. يذهب العديد من الباحثين إلى حصر «الجهات الفاعلة من غير الدول»، في علاقتها بالتهديدات الناشئة، بالمجموعات الإرهابية والمليشيات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة. لكن في الواقع فإن هذه «الجهات الفاعلة من غير الدول» هي أشمل بكثير، وتلعب أدواراً كبيرة في التأثير على سياسات الدول، وتسهم بصورة فعّالة في عمليات التغيير الجيوسياسي في عدّة مناطق بالعالم. واعتماداً على الدراسات والبحوث في السياسة والعلاقات الدولية، يمكن تقسيم «الجهات الفاعلة من غير الدول» إلى صنفين: 1. الجهات الفاعلة الحكومية-الفرعية (Sub-state Actors) والمعروفة أيضا باسم الجهات الفاعلة المحلية (Domestic Actors)، مثل النقابات العمالية. 2. الجهات الفاعلة العابرة للحدود (Transnational Actors) التي تضم: أ- المنظمات الحكومية الدولية (IGOs)، مثل صندوق النقد الدولي (IMF)، وحلف شمال الأطلسي (NATO). ب- الشركات العابرة للحدود (TNCs)، مثل شركات النفط العالمية والشركات التكنولوجية. ت- المنظمات غير الحكومية (NGOs). ث- المجموعات الإرهابية المتطرفة، مثل الحشد الشيعي وحزب الله وداعش. ج- مجموعات الجرائم الدولية التي عادة ما تعمل بصورة غير قانونية في مجالات صنع وترويج المخدرات وعمليات الاتجار بالبشر. وسوف تقتصر هذه الورقة على تحليل أدوار المنظمات غير الحكومية، «كجهات فاعلة من غير الدول»، وعلاقتها بالتهديدات الناشئة والتغيير الجيوسياسي الحاصل في المنطقة العربية. الإرهاب ومشروع التغيير الجيوسياسي في الشرق الأوسط: إذا ما نظرنا إلى الوضعية السياسية والأمنية للمنطقة العربية، فإننا نجد أن صعود الإرهاب وانتشار المليشيات المسلحة وتعطيل عمل مؤسسات وقوانين الدولة وازدياد التطاحن الطائفي والايديولوجي بين أبناء الشعب الواحد، ومحاولات إسقاط الدولة نفسها، تعتبر أهم وأخطر التهديدات الجديدة الناشئة منذ استقلال معظم الدول العربية في منتصف القرن الماضي. وإذا كان البعض لا يزال يتحدّث عن تهديدات ناشئة في المنطقة العربية لإسقاط الدول، فإن الواقع يتحدث اليوم عن دول سقطت بالفعل الواحدة تلو الأخرى، في ظروف معقّدة، مبهمة، وغير واضحة، وأقل ما يقال عنها أن الأطراف الخارجية ذات المصلحة والجهات «الفاعلة من غير الدول» لعبت الدور الأكبر من أجل الوصول إلى ما آلت إليه الأمور اليوم من نتائج كارثية. فبالرجوع إلى ما آلت إليه الأوضاع في العراق منذ الاحتلال الأمريكي سنة 2003، نجد أن جميع الاتهامات التي بُني عليها التدخل الأمريكي كانت خاطئة باعتراف الحكومتين الأمريكية والبريطانية بشأن موضوع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية المزعومة وغيرها من الأسباب. وأما الحديث عن دعم الديمقراطية في هذا البلد فإن الواقع بيّن أن هذا الاحتلال، بعد فشله الذريع في إدارة البلاد بعد سقوطها، تسبب في هدم الدولة وقتل وتهجير ملايين العراقيين، ومهّد لعملية تقسيم البلاد على أسس طائفية، وفتح المجال لظهور مجموعات إرهابية ومليشيات مسلحة أهمها الحشد الشيعي وداعش. ومن جهة ثانية، بعد تدخل حلف الناتو في ليبيا سنة 2011 بدواعي حماية المدنيين، وانهيار نظام القذافي، أضحت البلاد غابة لا توجد بها مؤسسات، تنتشر فيها الأسلحة بكثافة، وترتع فيها مليشيات ومجموعات مسلحة في جميع أنحاء البلاد التي أصبحت فعليا مهدّدة بانقسامات على أسس قبلية وعرقية وإيديولوجية. وأما بالنسبة الى الوضع في سوريا، فإنها فقدت مئات الآلاف من مواطنيها وأراضيها وسيادتها، بالإضافة إلى الأرقام المفزعة التي تعبّر عن عمليات قتل وتهجير وخراب كبيرة، ربّما لم تشهدها المنطقة العربية بأسرها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلا في العراق بعد 2003. ولا يمكن الحديث عن أن باقي دول المنطقة العربية كانت أكثر حظا، لأن الأوضاع الداخلية، مع الاختلافات النسبية بين الدول، تبقى هشّة في ضوء عدم الاستقرار وضعف مؤسسات الدولة، والضغط المستمر للقوى الإرهابية والمجموعات المتطرفة التي تستهدف التغيير في مسارات لا تختلف عما جرى في ليبيا وسوريا والعراق. توظيف التهديدات الناشئة في خريطة التغييرات الجيوسياسية: إن موضوع التغيير الجيوسياسي في المنطقة العربية باستخدام وسائل متعدّدة بما فيها خلق تهديدات جديدة تسمى التهديدات الناشئة، وتوظيف «الجهات الفاعلة من غير الدول»، المنضوية تحت مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، لم يعد سرّا على أحد، بل أثبتت الأحداث التي مرت بها المنطقة، لربما منذ الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003، أن عملية فرض التغيير الجيوسياسي القسري على شعوب المنطقة وإعادة صياغة النظام الدولي، تُواصل طريقها مهما اختلفت الحكومات الغربية ومهما رُوّج للأهداف الإنسانية للمنظمات غير الحكومية، كجهات فاعلة من غير الدول، وكجهات تدّعي دعمها للديمقراطية وحقوق الإنسان. ففي 19 ديسمبر 2006، نشرت مجلة التايم Timei الأمريكية تقريراً سرياً، قُدّم إلى إدارة بوش الابن يضع الخطوط العامة للإطاحة بالنظام في سوريا. وتعتمد الخطة، بحسب التقرير، على توظيف النشطاء والحقوقيين وتزويدهم بمواد عبر الإنترنت لنشرها بهدف التأثير على الرأي العام المحلي والإقليمي في فترة الانتخابات النيابية المخطط لها آنذاك في مارس 2007، وكذلك بتخصيص تمويل مالي مهم يُمرّر عبر برنامج «مبادرة الشراكة الشرق أوسطية» (MEPI). وتنص الخطة أيضا، بحسب التقرير، على الاعتماد على الإخوان المسلمين، كجهة فاعلة من غير الدول لنفس الغرض. وربما يكون هذا تأكيدا آخر على أن حركة الإخوان المسلمين، وغيرها من حركات الاسلام السياسي، ربّما تكون من أهم «الجهات الفاعلة من غير الدول»، التي لعبت ولا تزال تلعب دوراً أساسياً في عملية التغيير الجيوسياسي في المنطقة، وخاصة ضمن أحداث ما يسمى «الربيع العربي». نشر مركز الأبحاث الأمريكي (Middle East Briefing) بواشنطن، تقريراً بتاريخ 9 يونيو 2014، تحت عنوان «وزارة الخارجية الأمريكية.. وثيقة تؤكد أجندة لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسطii». وجاء في التقرير أن الولايات المتحدة الأمريكية تقوم عبر برنامج دعمها لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، المنضوي تحت برنامج مبادرة الشراكة الشرق الأوسطية (MEPI)، بالتلاعب بهذه المنظمات غير الحكومية وأعضائها لتتماشى مع أهداف الأمن الداخلي الأمريكي. ويقول التقرير أيضا ان البلدان المستهدفة من هذا البرنامج هي: اليمن، المملكة العربية السعودية، تونس، مصر، البحرين، وتم إضافة دولتين بعد سنة من إعداد البرنامج وهما: ليبيا وسوريا. ويضيف نفس التقرير أنه في إطار سياسة التغيير الجيوسياسي في المنطقة والمضي قدما في تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، تم في سبتمبر 2011 إنشاء مكتب تنسيق خاص بالانتقال السياسي في الشرق الأوسط، عُيّن على رأسه وليام بي تايلور (William B. Taylor) الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة الأمريكية في أوكرانيا في فترة ما سُمي «الثورة البرتقالية» بين سنوات 2006-2009. إن هذا المثال يؤكد مرّة أخرى أن المنظمات غير الحكومية استخدمت ولا تزال كجهات فاعلة من غير الدول، للمساهمة في عمليات التغيير الجيوسياسي في المنطقة العربية. في نفس الإطار، نشر المرصد الجيواستراتيجي للإعلام التابع لمعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بباريس (IRIS)، دراسةً بتاريخ 5 يوليو 2011، تحت عنوان «الدبلوماسية العامة.. القوى الناعمة والتأثير على الدولiii». وذكرت الدراسة أن مسألة إعادة تشكيل المناطق الاستراتيجية في العالم للضمان والدفاع عن المصالح الأمريكية، بدأت منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن الذي جعل من تصدير الديمقراطية المحور الأساسي في السياسة الخارجية الأمريكية. وخصّص جهازاً إدارياً للقيام بهذه المهمة عبر مؤسسة (National Endowment For Democracy). وتواصل هذا المشروع مع الإدارات المتعاقبة مع اختلاف في العناوين، إذ ركزت إدارة بوش الابن على مشروع دمقرطة الشرق الأوسط، وإدارة الرئيس بيل كلينتون على القوة الناعمة لوسائل الاتصال ودعّمتها بشبكات الإنترنت، في حين ركزّت إدارة باراك أوباما على الترويج لقواعد الحوكمة الرشيدة والمساندة الفاعلة للمجتمع المدني عبر ما يُدعى بمختصي الديمقراطية والمنظمات غير الحكومية. وتشير الدراسة إلى أن معظم النشطاء وممثلي المنظمات غير الحكومية التي كانت جهات فاعلة في ما سُمي «الربيع العربي» وخاصة في مصر، وتونس، وسوريا، والبحرين، تم تدريبهم على تقنيات المعارضة السلمية من قبل نشطاء صربيين منتمين الى مجموعة (OTPOR) التي أطاحت بملوزيفيتش أواخر التسعينيات. وتضيف الدراسة أن مجموعة (OTPOR) تم إعادة تسميتها إلى (CANVAS) التي تختص في تقديم الاستشارات حول المظاهرات في الشارع والترويج لها وإبرازها إعلامياً... وأصبح المركز الدولي المختص في الديمقراطية السلمية بتمويل جزئي من مؤسسة (Freedom House) الأمريكية. وتعتبر هذه الدراسة شهادة قوية تثبت بقوة أن التهديدات الناشئة الفعلية هي محاولات إسقاط الأنظمة والدول مقابل الفوضى وعدم الاستقرار، وأن المنظمات غير الحكومية، كجهات فاعلة من غير الدول، هي أدوات تعمل، بعلم أو بدون علم، ضمن عمليات التغيير الجيوسياسي وإعادة صياغة النظام الدولي الجديد. دور مراكز الدراسات والبحوث في مشروعات التغيير الجيوسياسي: ويدخل في صنف المنظمات غير الحكومية عدد كبير من مراكز الدراسات والبحوث التي تنشر بصورة دورية دراسات وتقارير حول الأوضاع السياسية والحقوقية والاقتصادية والأمنية والاستراتيجية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. وتعتبر مراكز الدراسات والبحوث الغربية من أهم «الجهات الفاعلة من غير الدول»، إذ إن بعض الدراسات التي تُكلَف بإعدادها حول المسائل الجيوسياسية والاستراتيجية هي في واقع الأمر نوع من خريطة الطريق للقوى الغربية ضمن مشروع التغيير الجيوسياسي أو إعادة تقسيم المناطق الاستراتيجية حول العالم، أو أيضا إعادة صياغة النظام الدولي الجديد. وفي الواقع، أول من بدأ بالحديث عن إعادة صياغة النظام العالمي الجديد أو من تنبأ بتقسيم الدول على أسس طائفية أو عرقية، وأول من نشر مشاريع خرائط لإعادة تقسيم المناطق الاستراتيجية، هي مراكز الدراسات والبحوث. وهي بذلك تلعب دورها الفاعل في تجربة ردود الفعل حول طرح المخططات الجيوسياسية وتسهيل قبولها على المستوى الدولي. وبحسب تصنيف ivTTCSP التابع لجامعة بنسلفانيا، يوجد 6750 مركز دراسات وبحوث حول العالم، منها 3701 مركز في أوروبا وأمريكا الشمالية. وتعتبر هذه المراكز هي القوى الفاعلة في المساعدة على إعداد البرامج وتنفيذ المخططات في جميع المجالات وفي مختلف مناطق العالم. وفي نفس الإطار تقوم العديد من الشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للحدود، بصفتها «جهات فاعلة من غير الدول»، بمجموعة من النشاطات المساندة ذات صبغة مجتمعية أو أخلاقية، والتي تصب في نفس هدف التغيير الجيوسياسي القسري في العديد من مناطق العالم. وكمثال على ذلك، نذكر ما قامت به شركة جوجل في شهر يونيو 2011، بتنظيم ملتقى دولي في مدينة دبلن، بإيرلندا، حول مقاومة التطرف والعنف v(Summit Against Violent Extremist). بحيث ضم هذا الملتقى، بالإضافة إلى ممثلي المنظمات غير الحكومية والباحثين والأكاديميين، حوالي 80 شخصاً من الأعضاء السابقين «التائبين» للمجموعات الإجرامية وعصابات حليقي الرؤوس والنازيين الجدد والإسلاميين من دول مختلفة، الذين جاؤوا يستعرضون التجربة السيئة التي مروا بها، وليقدموا ما يُدعى بالنصح والحلول ضدّ مظاهر العنف والتطرف. ولم يكن للفعالية أي علاقة بالتكنولوجيا ولا بالتطور التقني، بل كانت أحد النشاطات السياسية التي تقوم بها الشركات العابرة للحدود، كجهات فاعلة من غير الدول، في إطار شراكات تصب بالضرورة ضمن مشاريع وبرامج دولية معينة. في الختام... حاولت من خلال ما سبق أن أبيّن أن ما يسمى «التهديدات الجديدة الناشئة» في المنطقة العربية والمتمثلة أساسا في صعود الإرهاب والتطرف ومحاولات إسقاط الدول ليست إلاّ نتائج، وأدوات، لعملية التغيير الجيوسياسي القسري المطروح من قبل الدول الغربية، في إطار إعادة صياغة النظام الدولي الجديد والصراع حول مناطق النفوذ الاستراتيجية حول العالم، بحيث تلعب فيه «الجهات الفاعلة من غير الدول» الدور الأكبر محلياً، وإقليمياً، ودولياً، وخاصة في مستوى العمل المشبوه للمنظمات غير الحكومية الممولة من أطراف ذات مصلحة. i http://content.time.com/time/world/article/0,8599,1571751,00.html ii http://mebriefing.com/?p=789 iii http://www.iris-france.org/docs/kfm_docs/docs/2011-07-12-diplomatie-publique-softpower.pdf iv http://repository.upenn.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1009&context=think_tanks v http://www.cfr.org/projects/world/summit-against-violent-extremism-save/pr1557

مشاركة :