تتناول هذه الرواية الفريدة التأثيرات الاجتماعية للحرب العالمية الأولى، وفترة بين الحربين، هذه الفترة التي أنتجت لنا أعمالاً أوروبية شهيرة عديدة، وعلى رأسها هذا العمل، وبطلة هذه الرواية فتاة قروية تدعى كريستين، تسكن إحدى قرى النمسا، فمن خلالها يستعرض الروائي النمساوي ستيفان زفايغ، بانوراما أوربية لفترة ما بين الحربين، وما تقترفه الحروب وتعمل به في نفوس الشعوب المنكوبة، وعبارة (مكلف للغاية) التي تقال على لسان أبطال الرواية، تختزل الحال المعيشية للأسر، فالحروب تُثبط الآمال، وتضيق الأرواح، وتصيب الأُسر الفقد والاشتياق. تبدأُ الرواية مع تلقي «كريستين» برقية من زوج خالتها التي هاجرت إلى أميركا، يبدي من خلالها ترحيبه باستقبالها في إحدى الفنادق السويسرية، وتلبي كريستين الدعوة وتحلُ ضيفاً على خالتها في سويسرا، وهناك تتلبس شكلاً جديداً وتنفتحُ على أجواء الترف، ويعود الدفء إلى مشاعرها المتيبسة وتنتسب إلى عائلة زوج خالتها، وتنغمس بهذا الوسط الارستقراطي وتنشأُ بينها وبين المهندس الألماني علاقة غرامية ويتوددُ إليها الجنرال الإنجليزي، حتى إنها تنسى اسمها الأصلي، ولا تراسل أمها المريضة، ولا تقرأ ما يكتبهُ لها معلم القرية عن حالة والدتها، لكن هذه الوضعية لم تستمر، إذ ترصدت لها الفتاة الأميركية «مانهايم»، التي لاحظت حلول الضيفة الجديدة مكانها وأنها لم تعد مثار اهتمام المهندس الألماني، وخلال فترة قصيرة تكتشفُ الفتاة الأميركية بأن منافستها لا تعرف شيئاً عن سلوكيات وقيم المجتمع الأرستقراطي، وذلك بسبب وضعها الاجتماعي البائس في القرية، وعندما ترفعُ النقاب عن صورة كريستين الحقيقية للجميع، تتعرض كريستين للمقاطعة، وهذا مما أثار مخاوف الخالة بأن تخسر اعتبارها الاجتماعي، ويتطوعُ شخص بالنبش في ماضيها مثلما بحثت الفتاة الأميركية «مانهايم» عن جذور ابنة أختها. ولذلك فإن ما عاشته «كريستين» في كنف خالتها لم يكن إلا فجراً كاذباً، لكنه لن يمرُ دون أثر، ومع عودة «كريستين» للقرية ووفاة والدتها، يتعاظم شعورها بالوحشة، وتصبحُ شخصية انفعالية نافرة من أهالي القرية، ولا يخففُ من قتامة هذه الأجواء سوى رحلاتها إلى فيينا كل يوم أحد، مما يوفر لها إمكانية التواصل مع شخصية «فردينان» الذي تذوق مرارة الحرب وتتقاطع آراؤه مع ما تفكر فيه «كريستين» التي تدرك عبث حياتها المشروطة بالمستوى الاجتماعي وشح تجاربها الذاتية، ومن خلال الأسئلة الوجودية التي يمررها المؤلف على لسان «فردينان»، يضع «كريستين» أمام خيارين إما الانتحار أو نهب الأموال من مكتب البريد، فالأول لا يتطلب الكثير من التفكير فيما القرار الثاني يحتاج للتفكير وتوقع الاحتمالات، يُذكر أن السرد يتخذ منحى متصاعداً باستثناء ما تكسره الاسترجاعات التي تكمل حلقات في هوية كريستين الاجتماعية من جهة، وتسد ثغرات في تركيبة شخصية «فردينان» من جهة أخرى. وفي الختام نجح زفايغ في جعلك متوحدًا مع بطلته، شاعرًا أنك آلة تصحو وتغفو وتعمل بميقات محدد، ذو ملامح باهتة جافة تفتقر إلى شغف الحياة والعيش، فكل يوم يشبه ما يسبقه وسيشبه ما يليه سواء في البيت أو في محل عملك، ولكن عندما تجرب رفاهية الحياة البعيدة عن الفقر والبؤس وتنغمس فيها بكل تفاصيلها، ثم تأتي صفعة الحياة لتعيدك إلى مكانك الأصلي، سوف يتبادر إلى ذهنك هذا السؤال، كيف يمكن أن أعود للحياة القديمة البائسة؟ وكيف سوف أعيشها؟ كتب المترجم يوسف نبيل في مقدمة الرواية: هذه الرواية لم تُنشر إبان حياته، ووجدوها وسط بقايا أوراقه ومخطوطاته الأدبية بعد انتحاره، ولم تنشر في ألمانيا إلا بحلول عام 1982م بعنوان: «نشوة التحول»، ولم تترجم إلى الإنجليزية إلا في عام 2002م، كما حال انتحار زفايج دون الانتهاء من هذه الرواية، ولكن رغم أنه يترك لنا الأحداث في ذروتها دون أن تكتمل، إلا أن ذلك قد يعد أحد أسباب فتنة هذا العمل؛ حيث يلتهم القارئ السطور ويجد نفسه في النهاية في انتظار دقات القدر تعلن عن مصير بطلة العمل المجهول... ولكن يطول الانتظار. خالد المخضب
مشاركة :