حتى لا تتحول معركة الفساد في تونس إلى لعبة مغلقة أداء هيئة مكافحة الفساد قد يكون ضعيفا أو بطيئا أو أخذ مسارات متشعبة في معركة يريد الناس أن يروا نتائج سريعة فيها، لكن ذلك كله لا يلغي ضرورة العودة إليها والاستفادة من مخزون الوثائق التي جمعتها. الشعبوية تزيد معركة الفساد صعوبة وتعقيدا هناك حماس كبير للحرب على الفساد، وهذا جيد ومهم، لكن هذه المعركة تحتاج إلى ضوابط ورؤية حتى لا تتحول إلى حرب الكل ضد الكل. ويجد الحماس الشعبي للحرب على الفاسدين في تصريحات الرئيس قيس سعيد خير داعم له خاصة أن فئات كثيرة تشعر أنها فقدت حظوظها في التشغيل أو في الحصول على الخدمات الضرورية بفعل سيطرة ثقافة الفساد التي لا تتعامل إلا بمنطق المحسوبية والرشوة. وبمجرد انزياح المنظومة السابقة، وتحرر القضاء من نفوذ اللوبيات الظاهرة والخفية تحركت القضايا في اتجاهات متعددة سواء تجاه بعض النافذين من النواب والسياسيين أو رجال الأعمال، أو على مستوى محلي من خلال اكتشاف فساد واسع في طرق التوظيف وتوزيع رخص وسائل النقل الجماعي بكل من ولايتي (محافظتي) سيدي بوزيد ومنوبة، وسط تهيؤ واستنفار لفتح ملفات أخرى في محافظات أخرى ومؤسسات حكومية مختلفة. يدب الاعتراف بأن ضعف الدولة الذي ساد بعد 2011 قد فتح الباب واسعا أمام اختراق مختلف مؤسساتها سواء للأحزاب أو حتى للوبيات الفساد التي أخذت بعدا أوسع وأكثر شمولية بعد أن اطمأن المتدخلون إلى أن الحكومات المتتالية كانت ضعيفة ومرتبكة، والأحزاب الحاكمة أو الحليفة لها مشغولة بمعارك تثبيت النفوذ، والقضاء مشلولا بانتظار توضح معالم الصراع السياسي والجهة التي ستفوز بإعطاء التعليمات. ما الذي يمنع المؤسسة القضائية أن تصدر أحكامها حتى يعرف الناس أن القضاء يتقدم ولم يعد يخشى الضغوط القديمة ولا الضغوط الجديدة؟ لأجل هذا تتوجه سهام الاتهام في مختلف الاتجاهات، لكن نحتاج إلى الهدوء، وأن نترك مهمة تفكيك شبكات الفساد للقضاء خاصة أنها شبكات قديمة ومتداخلة، بعضها من قبل الثورة واحتمى بالصاعدين الجدد للسلطة، والبعض الآخر نتاج الثورة المرتبكة التي حملت شعارات عامة انتهت بها لأن تكون مجرد معركة حول الكراسي، وفسحت المجال للفوضى وأضعفت الدولة. وبالنتيجة، فإن الفساد يسيطر على الحياة العامة في البلاد من أسفل إلى أعلى وبتفاصيلها الصغيرة، وليس حالات معزولة حتى تمكن السيطرة عليه بسهولة، أو الضغط على القضاء لإنهائه في يوم وليلة. ولا يمكن أن يلعب السياسيون دور القضاء، بمن في ذلك رئيس الجمهورية، أو رئيسة الوزراء، أو أنصار الرئيس مهما كانت مصداقية شعاراتهم والتزامهم بقضايا الناس. وقد رأينا في فترات سابقة كيف أن إدارة معركة الفساد على مواقع التواصل الاجتماعي قد أساءت إلى الكثير من السياسيين ورجال الأعمال دون أن تكون لها أي نتائج على الأرض. وعلى العكس، فقد اكتشف الناس أنها حملات لتصفية الحساب بين لوبيات، أو مزايدات سياسية تم خلالها الإساءة إلى رجال أعمال اضطر بعضهم إلى مغادرة البلاد والاستثمار في مناطق أخرى لحين تعود الأوضاع في تونس إلى هدوئها. إن معركة الفساد لن تزيدها الحملات الشعبوية سوى صعوبة وتعقيدا، وسيجد القضاء نفسه مشتتا بين اتّباع طرق التقصي القضائية مكتملة الشروط وبين الاستجابة السريعة لما يرفعه البعض من اتهامات ضد هذه الشخصية أو تلك بالتوازي مع اتهام القضاء بالفساد والرضوخ للضغوط، مع أن هذه الأسلوب هو واجهة أخرى للضغوط التي تمنع القضاة من التقدم في فتح الملفات الثقيلة. حماس كبير للحرب على الفساد حماس كبير للحرب على الفساد بالمقابل على الجهات القضائية التي تحرص على استقلالية القطاع أن تتحرك لحسم بعض الملفات مثل ملف الفساد لدى بعض الأحزاب كما أورده التقرير الأولي لمحكمة المحاسبات. ما الذي يمنع المؤسسة القضائية أن تصدر أحكامها حتى يعرف الناس أن القضاء يتقدم ولم يعد يخشى الضغوط القديمة ولا الضغوط الجديدة؟ فإذا كانت الأدلة ثابتة على هذا الحزب أو ذاك فلم التأخير في إصدار الأحكام؟ وإذا كانت الأدلة ضعيفة أو غير مكتملة، أو تحتاج إلى وقت أطول من المهم أن يخرج المتحدث باسم النيابة العمومية إلى الناس ويوضح حتى نقلل من الجدل الذي يعيق القضاء عن أداء مهامه ويزيد من الشكوك في مصداقية الحرب على الفساد، ويجعل الناس يبحثون عن آليات أخرى لمواجهة الفاسدين عير محاكمات انفعالية على مواقع التواصل. إن حسن إدارة المعركة ضد الفساد سيوفر أرضية إيجابية للانتقال الاقتصادي والسياسي الذي يقطع مع المرحلة الماضية، في المقابل يوفر الغموض في إدارة المعركة مبررات للفاسدين كي يركبوا موجة الانتقال الجديد ويظهروا في صورة المتحمسين لهذه المعركة. إن مسار الحرب على الفساد الذي أسس له الرئيس سعيد بإجراءات الخامس والعشرين من يوليو لا بوابة لنجاحه سوى عبر القضاء، وأي محاولة لتوظيفه سياسيا أو اجتماعيا من خبراء ومحللين وشخصيات وأحزاب تظهر دعمها للرئيس سعيد، ليست سوى لعبة لإدامة الأزمة والخروج بها من مسار الحل إلى ملعب تصفية الحساب مع الخصوم بحق أو بغير حق، أو التغطية على ملفات، أو البحث عن مواقع جديدة في صف مسار الرئيس سعيد. ومن المهم أيضا العودة إلى تفعيل دور الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بقطع النظر عن تجربة إدارتها السابقة، خاصة أن رئيسها لم تثبت عليه أي تهم قضائية، وهو كما غيره من مسؤولي المؤسسات الحساسة قد استهدفته هجمات كثيرة لم يثبت القضاء أيا منها. قد يكون أداء الهيئة ضعيفا أو بطيئا أو أخذ مسارات متشعبة في معركة يريد الناس أن يروا نتائج سريعة فيها، لكن ذلك كله لا يلغي ضرورة العودة إليها والاستفادة من مخزون الوثائق التي جمعتها، ومن ملفات الإقرار بالمكاسب الذي يخص مختلف السياسيين وكبار المسؤولين ورجال الأعمال والفاعلين الاجتماعيين وعامة الناس، وهي وثائق ستحتاجها الدولة في فتح معركة الفساد في مسارها القانوني وليس الشعبوي. مختار الدبابي كاتب وصحافي تونسي
مشاركة :