غالباً ما ينجح زعيم حزب الله في حسم معاركه دون أن يخوضها. غالبية المعارك يحسمها بخطاب. سرعة حسم المعركة مرتبطة بحدة نبرة الصوت وقياس مدى هدوئه وغضبه وحزمه. وغالباً ما يضاعف من وقع وتيرة وسرعة الحسم، حركة رفع إصبعه الشهيرة إلى الأعلى والأسفل مرفوقة بعبارات التهديد والوعيد. ومن رفع الإصبع وتحريكه تنطلق الرسائل غير المشفّرة بالاتجاهات المطلوبة ليتأمّن الانصياع والاصطفاف ضمن أطراف المنظومة وفقاً لمشيئة إصبع زعيم حزب الله. ما تقدّم أعلاه، لا يشكل مدحاً ولا قدحاً بحسن نصرالله. إنه توصيف وقائع الحال في سياقات الحروب النفسية التي يعتمدها الرجل. وكأنّ هذه الحروب النفسية باتت عند نصرالله علماً منفصلاً عن علم النفس أو علم الاجتماع السياسي ومتصلاً بأسلوب الخطابة على أزيز الرصاص وصليات الصواريخ. وتبدو عدة شغل نصرالله النفسية متوازية مع استراتيجيات السيطرة والهيمنة والتغوّل على الآخرين بهدف تخضيعهم وترضيخهم لمشيئته ضمن مشروع أيرنة لبنان، تحت شعار “حمايتهم من أنفسهم”، ومن دون أن تجد من يطوّعها ويستثمرها أحد بقدر ما أسهب نصرالله في الإفادة منها ولمّا يزل. صحيح أنّ وقائع لبنان السابقة، أثبتت أن سلاح نصرالله كان محلّ إعجاب اللبنانيين والعرب عندما كان يستخدمه في الحرب النفسية مع إسرائيل في سياق ما يعتبره ردعًا يمنع إسرائيل من محاولة التفكير في الاعتداء على لبنان. سوء تقدير نصرالله وخطأ حساباته جعله يعتقد أن حروبه النفسية التهويلية هذه تحافظ على ذات الإعجاب به عندما يستخدم أسلحته النفسية وغير النفسية في الداخل اللبناني والدواخل العربية. بعض الوقائع المستجدة بيّنت أن صواريخ نصرالله النفسية قد بهتت وفرغت من مضامينها ومفاعيلها في الحسم السريع. وعلى سبيل المثال يفيد التذكير بأن أحداث الحزب مع عشائر عرب خلدة والتي انتهت بحوادث دامية، كشفت عن رفض العشائر محاولات حزب نصرالله المستمرة في إخضاعهم وترهيبهم ودفعهم من خلال توتيرهم إلى الوقوع بفخ التصدي لتجاوزات بعض الحزبلّاهيين. وهو التصدي الذي تمكّن نصرالله من لجمه عبر تظاهره بالاحتكام لسلطة الدولة وأجهزتها الأمنية والقضائية التي حكمت بالسجن على شباب خلده بمدد تتراوح بين ثمانية وخمسة عشر عاماً، وطبعاً من دون توقيف متسبّب واحد من الحزب في حادثة خلدة. كما أن حادثة أهالي شويا مع راجمة صواريخ الحزب ومقاوميه بيّنت حجم المساس بهيبة الحزب واستعداد الناس للتجرؤ على ما كان يعتبر يوماً من المقدسات لديهم. وأخيراً بيّنت واقعة الطيونة حجم المفاجأة الصادمة التي تلقاها الثنائي الشيعي وخصوصاً حزب الله والتي انتهت بسبب المغالاة في التهويل بفائض القوة إلى مقتلة مؤسفة يحاول التحقيق العسكري فك شفرتها وسط تعدّد الروايات الأمنية والعسكرية، فضلا عن روايات وتجاذبات الأطراف المعنية بها. المتفحّص لهذه الحوادث اللافتة يكتشف ضيق ذرع الناس من سياسات حزب الله المنطلقة من فوائض القوة السياسية والحربية والنفسية والتي قوّضت حياة اللبنانيين ومستقبلهم، وذهبت بهم وباقتصادهم إلى الجحيم وما بعد فنزويلا. سيّما أن هذه السياسات لطالما انتصبت على المعادلة التخادمية غير السحرية بين حزب الله وحلفائه في منظومة الحكم والفساد والنيترانيوم، وخصوصاً شريكه في تفاهم مار مخايل التيار الوطني الحر ووريثه جبران باسيل.. “غطوا على سلاحنا نغطي على فسادكم” أو “غطوا على فسادنا نغطي على سلاحكم”. وكما تنبّه نصرالله إلى انتهاء مفاعيل حروب ايران النفسية وصواريخها الصوتية القادرة على تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف الدقيقة، بدليل سحبها من التداول بلسان قائد الحرس الثوري بحجة أن الظروف غير مؤاتية. يبدو أنه تنبّه أيضاً إلى انتهاء مفاعيل حروبه النفسية في الداخل اللبناني خصوصاً بعد حادثة الطيونة التي سقط فيها عدة قتلى وعشرات الجرحى للثنائي الشيعي غالبيتهم من حركة أمل في سياق مظاهرة هادفة لتنحية المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت طارق بيطار. إنّها المظاهرة التي تولّى نصرالله شخصياً التعبئة والحشد لها، ميدانياً، في الشارع. وسياسياً، في مجلس الوزراء الذي بات انعقاده معلقاً على خشبة تنحية المحقق العدلي طارق بيطار، حيث تؤكد مواقف قادة حزب الله أن استمراره في مهامه التحقيقية بانفجار المرفأ يشكل خطراً وجودياً على حزب الله أين منه خطر داعش والإرهاب التكفيري كما يسميه نصرالله الذي يبدو أنه اكتسب خبرة ومناعة مضاعفة من معمودية المحكمة الدولية باغتيال الحريري، فتظاهر بعدم الخوف والقلق من اقتراب حبل التحقيق من عنق حزب الله، وأعلن أنّ الخوف وما بعد القلق هو على رئيس الحكومة السابق المسكين والمستضعف حسّان دياب. وربّ متسائل بخبث عن موقف نصرالله فيما لو كان المستضعف هو فؤاد السنيورة! رغم هذا لم ينح نصرالله صواريخه النفسية جانباً، بل عمد الى إطلاق صلية نادرة وغير مسبوقة منها في تاريخ المقاومة ضد إسرائيل، أو في معاركه الإقليمية المتمادية من سوريا الى سدّ مأرب. ولأنّ لسان نصرالله يمثل كل حزب الله السياسي ونصفه العسكري اضطر في سياق الحرب النفسية ضد خصوم الداخل وحلفائه معاً من باب حصر التصويب بالقوات اللبنانية ورئيسها دون تسميته إلى البوح بأغلى أسرار الحزب الثمينة والمجاهرة بامتلاك 100 ألف مقاتل “لو أشير لهم على الجبال لأزالوها”. وبقدر ما يستظهر رقم الـ 100 ألف مقاتل الذي كشفه نصرالله تغوّلاً في القوة من باب عدم التهديد بالحرب الداخلية، لتكون رادعاً لكل من تسوّل له نفسه التفكير بها، بقدر ما يستبطن تهديداً بالحرب واستعداداً لخوضها، ليس ضد القوات اللبنانية وحدها بل وضد كل من سواها، وضمنهم حليفه القوي ميشال عون بسبب عدم مجاراته ووريثه جبران باسيل في معركته الوجودية وعنوانها المركزي الإطاحة بالمحقق العدلي. وقد أجاز نصرالله لحزبه التحالف الانتخابي مع عدوه المستجد القوات اللبنانية في إطار التحالف الرباعي، ويومها نظم نصرالله قصيدة عشق بالـ 10452 كلم2 لم يسبقه إليها مؤسّس القوات وقائدها الأول بشير الجميل. إنها مقتضيات مصلحة المصلحة الحزبلّاهية يومها، وقد حلّلها نصرالله لنفسه وحزبه ونفذها بسلطته الاستنسابية من دون أن يخبرنا في مضبطته الاتهامية ضد جعجع، كيف أصبح حليف الأمس القواتي عدو اليوم الجديد. وهذا السؤال برسم كل خصوم وحلفاء حزب نصرالله على السواء. السائد، أن أمين عام حزب الله لا يطلق كلامه على عواهنه، فالنص الصامت عادة ما يفضح بين أحرف الكلمات ما في الصدور، وليس بين السطور فقط، ما يستبطنه النص الناطق. لكن الذي دفع زعيم حزب الله إلى كشف سرّ عديد قواته هو استشعاره لخطورة التجرؤ المتكرر عليه والنيل من هيبته التي بُنيت بفوائض الاحترام ثم تبخّرت، ويريد نصرالله اليوم تثبيتها بفوائض القوة على الجميع وضمناً الجيش اللبناني، الذي لا يحتاج لأكثر من نصف بيان وليس خطاب حتى ينقسم ألوية مناطقية ومذهبية عرفها الجيش في محطات كثيرة لعلّ آخرها في عهد الحكومة العسكرية برئاسة ميشال عون، وعندها ربما يتصدر المنبر رئيس المجلس التنفيذي بالحزب هاشم صفي الدين ليحدثنا بتفاصيل أكثر عن المديات التي بلغتها معركة استئصال النفوذ الأمريكي في أجهزة الدولة والجيش خاصة، ما قد يدفع الحزب إلى فرزها وتصنيفها وتقسيمها ثم تطهيرها من دنس الأمريكيين والبيطاريين. لهذا فرقم الـ 100 ألف مقاتل الذي فرّط به نصرالله من باب التهويل على سمير جعجع، هو في استهدافاته الأساسية رسالة بالبريد السريع للأمريكيين (الذين أحيوا بالأمس ذكرى مقتلة المارينز الشهيرة في بيروت) مفادها بأن عليهم تفحّص وضعهم جيداً وإعادة النظر بخططهم التي كلما أراد نصرالله شدّ عصب محلول في مكان ما من بيئته الأساسية والواسعة لجأ إلى رفع خطاب المواجهة مع “الشيطان الأكبر” عند اللزوم، والعمل على إخراجه من المنطقة تارة بالثأر لقاسم سليماني وطوراً لفك الحصار عن سوريا ولبنان. لكن نصرالله لا ولم ينبس ببنت شفة حيال التخادم الأمريكي الإيراني (المنطلق منذ غزو أفغانستان والعراق واحتلالهما) والمستمر في بورصة الرقصات النووية والجاحظ حتى للعميان في التحالف الدولي ضد داعش. وكلنا يعلم أنه ما كان لجحافل قاسم سليماني أن تغزو أي مدينة عراقية إلّا برعاية الأمريكيين وتحت حماية الأباتشي الأمريكية. وسط هذه المشهدية من حروب نصرالله النفسية يتعقد المشهد اللبناني المنقسم حول المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت وأحداث الطيونة، وجديدها ما يروّج عن استدعاء القضاء العسكري لجعجع الذي ربط مثوله أمام سكري لجعجع الذي ربط مثوله أمامهالقضاء بمثول نصرالله شخصياً. هذا الانقسام المعزّز بتنظيم نصرالله مضبطة اتهام سياسي قضائي ضد جعجع، وشى وكأنّ عناصر المقايضة بين تفجير المرفأ وواقعة الطيونة قد اكتملت فهل تنجز الصفقة؟ أم يكون لمواقف خصوم حزب الله وخصوصاً البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي أكد الحرص على أن تشمل التحقيقات جميع الأطراف لا طرفاً واحداً كأنّه هو المسؤول عن الأحداث” مساراً آخر. الحكومة في كوما النأي بالنفس، ومفاعيل صهاريج المازوت تبخّرت ودخلت بورصة البزنس، والأيام القليلة المقبلة حبلى بالتطورات، فلننتظر..
مشاركة :