اليوم وغدا، تستضيف العاصمة الإيطالية روما القمة الـ16 لمجموعة العشرين، وسط سيل من الأحداث والمتغيرات الدولية التي تتطلب وقفة عالمية لوضع أسس دائمة طويلة الأمد للتعامل معها، ولا سيما أن الشعور العام بحساسية الوضع الدولي على عديد من الأصعدة، يكسب القمة زخما حتى قبل أن تنطلق. ثلاث قضايا أساسية ستعمل القمة على التعامل معها، سواء لأهمية تلك القضايا بصفة عامة، أو نتيجة الإلحاح الناجم عن تداعياتها على مستقبل الكوكب والنظام العالمي ككل خاصة في شقه الاقتصادي. الكوكب والناس والازدهار تلك هي العناوين الرئيسة لقمة العشرين الإيطالية هذا العام، عناوين تعكس جدول الأعمال الذي أعلن عنه ماريو دراجي رئيس الوزراء الإيطالي، والذي أبلغ مجلس الشيوخ الإيطالي بأن القمة ستركز على قضية مكافحة تغير المناخ وفيروس كورونا والتدابير المطلوبة للتعافي العالمي بعد الوباء، وإذ أقر رئيس الوزراء الإيطالي أنه دون مشاركة أكبر اقتصادات العالم فإنه لن يكون من الممكن الامتثال لاتفاقية باريس والحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، فإن هذا الأمر وعلى الرغم من أهميته يمثل جزءا من كل يتعلق بوضع الكوكب وسكانه ومستقبلهم. لكن القمة هذا العام تحظى بوضعية خاصة عندما يتعلق الأمر بقضية تغير المناخ تحديدا، ليس فقط لتنامي الوعي العالمي بالقضية، أو لتبني اقتصادات ناشئة استراتيجيات واتخاذ قرارات تعد حاسمة في المسيرة الدولية لمعالجة قضايا المناخ، ولكن لأن القمة تسبق أيضا مؤتمر الأمم المتحدة COP26 لتغير المناخ الذي سيعقد في جلاسكو في اسكتلندا في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، حيث سيكون موقف مجموعة العشرين حاسما في تقرير مستقبل الكوكب. لكن يوجد تباين واضح في آراء الدول المشاركة في قمة روما حول التفاصيل الخاصة بكيفية التعامل مع كل قضية من القضايا المطروحة على جدول الأعمال على حدة، وتتناقض المصالح بين مجموعة الدول التي تشكل مجموعة الـ7 (الولايات المتحدة - كندا - بريطانيا - فرنسا - ألمانيا - إيطاليا - اليابان) وهم جميعا أعضاء أيضا في مجموعة العشرين، وباقي الدول، ولا يعني هذا أن ذلك هو التباين الوحيد داخل المجموعة فحتى الدول غير الأعضاء في مجموعة السبع، بينها عديد من التناقضات وتباين المصالح وخلافات في وجهات النظر لا تتعلق فقط بالحلول المطروحة بل تمتد إلى الأولويات التي يجب بحثها. وفي الواقع فإن التوترات السياسية التي تشهدها العلاقات بين بلدان المجموعة مثل الأجواء المشحونة بالتوتر بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا من جانب والصين من جانب آخر، والنزاعات الحدودية بين الصين والهند، والاحتقان الراهن بين روسيا وبعض البلدان الأوروبية، يضاف إلى ذلك التطورات الاقتصادية التي شهدتها بعض بلدان المجموعة أخيرا مثل نقص إمدادات الطاقة في الصين والهند، قد تربك المشهد العام للقمة، على الرغم من استبعاد ألا تخرج قمة روما ببيان يتضمن خطوطا شديدة العمومية حول اتفاق القادة المشاركين على رؤية موحدة للقضايا المطروحة على جدول الأعمال. من المؤكد أن تحظى قضية التغير المناخي بنصيب الأسد في مناقشات القادة المجتمعين في روما، ويؤكد لـ"الاقتصادية" الدكتور ار. ميرك الاستشاري في عدد من المؤسسات الدولية التي تعالج قضايا التغير المناخي أن مسألة التخلص التدريجي من الفحم والالتزام بالحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض بـ1.5 درجة مئوية والحد من غازات الاحتباس الحراري، هي القضايا الجوهرية في قمة العشرين. ويعتقد الدكتور ار. ميرك أنه لا يوجد خلاف عالمي جوهري حول تلك القضايا بصفة عامة سواء تعلق الأمر بخطورتها أو أهميتها أو ضرورة الإسراع بمعالجتها والتصدي لتبعاتها، لكن هذا لا ينفي وجود خلافات شديدة عندما يتعلق الأمر بوقف التمويل الدولي لمشاريع الفحم والتخلص التدريجي من طاقة الفحم تماما، فلا يزال الفحم يشغل أكثر من نصف الكهرباء التي تولد في الصين، أكبر مصدر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ولم تلتزم روسيا والصين والهند بتحقيق صافي انبعاثات كربونية صفرية بحلول 2050 وهو هدف ضروري للحد من الاحتباس الحراري. وفي الواقع فإن القمة قد تواجه بتحد يجب عدم الاستهانة به فيما يتعلق باتفاق القادة حول تفاصيل تلك القضية الشائكة، خاصة بعد أن أفادت أنباء بأن السلطات الصينية أمرت مناجم الفحم بزيادة إنتاجها أخيرا. وترى لورين كريس الباحثة في مجال المنظمات الدولية أن غياب الرئيس الصيني شي جين بينج عن القمة يحمل عديدا من المدلولات، إذ يرسل رسالة واضحة بأن بلاده غير سعيدة بما تتعرض له من انتقادات بشأن طريقة تعاملها مع قضايا الاحتباس الحراري ومكافحة تغير المناخ، وأن هناك تجاهلا لجهودها في التحكم الصارم في نمو محطات توليد الطاقة بالفحم لديها، وذلك على الرغم من اتخاذها قرارات ببناء العشرات من محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم. لكن وسط هذا الاحتقان فإن مبادرة السعودية الخضراء لرفع مستوى جودة الحياة تعد من وجهة نظر الخبراء في قضايا التغير المناخي وحماية البيئة نموذجا ستكون له أصداء كبيرة خلال القمة، إذ تعطي تلك الرؤية وتفاصيلها وتوقيتها زخما للمهمة المشتركة لدول مجموعة العشرين للحفاظ على المناخ العالمي وضمان الطاقة النظيفة والشاملة. ولـ"الاقتصادية" يعلق الدكتور هارفي موريسن الاستشاري في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) قائلا "أبرز ما في المبادرة السعودية أنها ليست مجرد كلمات وإنما تتبنى أهدافا صارمة لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ضمن إجراءات تمويلية هادفة وفعالة، وذلك عبر تطوير مسار وطني واضح يتماشى مع خطط الرياض التنموية طويلة الأجل، ومن ثم فإن التزام السعودية باستثمار أكثر من 180 مليار دولار لتحقيق أهدافها يقدم للآخرين نموذجا عمليا لإمكانية الموازنة بين خطوات ملموسة على الأرض لمكافحة التغير المناخي. وأضاف "تلك الخطوات تأتي في إطار استراتيجية شاملة وليس فقط مجرد إجراء تكتيكي مؤقت، وفي الوقت ذاته يتم دمجها ضمن منظومة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وربما تتسم النظرة السعودية تلك بجهد مميز لأنها تريد إيجار حالة من الترابط وليس الوعي العام فقط لدى المواطن بأن قضايا مكافحة التغير المناخي لن تؤثر في مستوى معيشته بل على العكس ستضمن له درجة أعلى من الرخاء المادي مع ضمان الحفاظ على سلامة وصحة الكوكب". ويستدرك "تلك الخطوة تمثل تأسيسا نوعيا لقضية أكثر أهمية واوسع نطاقا، فالسعودية مع إعلانها بأنها ستنضم إلى التعهد العالمي بشأن غاز الميثان للمساهمة في خفض الانبعاثات العالمية لهذا الغاز 30 في المائة بحلول 2030 يأتي كجزء من التزامها بتقديم مستقبل أخضر نظيف. وأكد أن السعودية تنضم بذلك إلى من يمكن وصفهم بالقادة الحقيقيين في المجتمع الدولي الذين يعملون على إنجاح الجهود الدولية لمكافحة التغير المناخي عبر ضرب نموذج يتجاوز تقديم النصح للآخرين إلى التنفيذ الفعلي عبر تعهد ملزم وخطط محددة، وهذا يمنح الرياض مقعدا مميزا ضمن النخبة التي تعمل على عبور الفجوة الراهنة بين الوعظ والإرشاد الذي تقوم به بعض الدول. قضية التغير المناخي وعلى الرغم من محوريتها في القمة المقبلة لمجموعة العشرين، ليست الركيزة الوحيدة لها، فالعالم لم يشف بعد من فيروس كورونا، بل أن بعض المؤشرات الراهنة تبدو مقلقة من حيث تزايد الإصابات مجددا في بعض الدول، وتصاعد أصوات بعض الخبراء في المجال الطبي والمطالبة باتخاذ مزيد من الإجراءات المتشددة بما فيها العودة مجددا إلى سياسات الإغلاق. فعلى الرغم من حملة التطعيم العالمية ضد وباء كورونا التي بدأت منذ عام تقريبا، والتعهدات بتزويد الدول النامية بمليارات الجرعات من اللقاحات، إلا أن الأغلبية العظمى من أفقر سكان العالم لم يتم تلقيحهم بعد. بالطبع لتلك القضية بعد أخلاقي يرتبط في جزء منه بمفهوم التضامن الإنساني، لكنه أيضا يرتبط بتحول الكوكب إلى قرية صغيرة مترابطة، ومن ثم غياب استراتيجية جماعية لإيجاد حل جذري لمواجهة هذا الوباء، ستعني دائما أن هناك إمكانية لعودته ليضرب من جديد إذا ظلت هناك مناطق في العالم لم يتم تلقيح مواطنيها. يرى البروفيسور آدم نايجل الرئيس السابق لقسم التعاون الدولي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ميزة مجموعة العشرين مقارنة بعديد من التجمعات الدولية الأخرى أنها تتصف باتساع نطاق عضويتها، حيث تضم مجموعة من الدول المتقدمة الرئيسة ومجموعة أخرى من الاقتصادات الناشئة، وهذا يجعلها من أكثر المنظمات الدولية قدرة على معالجة القضايا الملحة التي تنتشر عبر الحدود الوطنية مثل سبل التصدي لوباء كورونا ويقول لـ"الاقتصادية"، "الفشل في توصيل اللقاحات إلى العالم النامي سيؤدي إلى سحب الأزمة الاقتصادية إلى ما بعد عام 2022، بما لها من تكلفة بشرية ومالية هائلة، وربما يوفر ذلك فترة زمنية كافية للفيروس للتحور إلى سلالات أكثر فتكا، ما يجعل هناك حاجة ملحة إلى عمل جماعي للتضافر لسحق الوباء". لكن ما الشكل الذي يجب أن يتخذه هذا التعاون الدولي؟ هذا تحديدا ما ستدور حوله النقاشات وربما الخلافات في القمة العشرينية في روما. فمن الواضح أن الاتفاق العام بين الدول الأعضاء حاليا يهدف إلى تكثيف توزيع اللقاح، وإذ كانت الدول المتقدمة وتحديدا دول مجموعة السبع قطعت وعودا في هذا المجال ولم يتم الوفاء بها ما يعكس من وجهة نظر الخبراء أن بعض الدول الغنية لم تفهم بعد أن لديها مصلحة في تحقيق استجابة عالمية على أسس إنسانية واقتصادية، ما يرجح معه أن تمارس بعض الاقتصادات الناشئة الأعضاء في المجموعة ضغوط لتنسيق استجابة أكثر طموحا لتحصين تلك الأجزاء من العالم التي تركت وراء الركب. والتحدي الاقتصادي المتمثل في ضمان استدامة انتعاش الاقتصاد الدولي، ليس ببند جديد أو طارئ على جدول أعمال المجموعة، بل في الحقيقة أنه يوجد منذ اجتمع زعماء مجموعة العشرين لأول مرة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، حينما كان اجتماعهم تعبيرا عن أن التعافي من الأزمة المالية لا يمكن أن يحدث من قبل الدول الغنية بمفردها، ومنذ ذلك الحين وفي جميع القمم السابقة للمجموعة فإن جدول الأعمال يعكس حقيقة أن الانتعاش العالمي لا يمكن أن يتحقق إلا بتعاون دولي. إلا أن المشكلة الأبرز تتمثل في أن تركيز القمة على ضمان الانتعاش الاقتصادي بعد أسوأ انكماش عالمي نتيجة وباء كورونا، يضعف أجندة المجموعة تجاه التحديات المتوسطة وطويلة الأجل مثل الإصلاح الضريبي الدولي للشركات، بينما ستركز أكثر على توفير الضرورات الاقتصادية في المدى القصير لتأمين الانتعاش الاقتصادي. في هذا السياق يعلق الخبير الاستثماري دي.سي مولر لـ"الاقتصادية" قائلا "عند حديث قادة المجموعة عن سبل الحفاظ على الانتعاش الاقتصادي فإن المخاوف من الانكماش النقدي في الدول المتقدمة مع ظهور الضغوط التضخمية تهيمن على منطق تفكيرهم، إذا يمكن أن يؤدي وضع كهذا إلى رياح عاتية تعصف بأي أمل في الازدهار الاقتصادي في الأسواق الناشئة". ويستدرك "لكن ما يتوقع بروزه اقتصاديا خلال قمة روما أن يعود مرة أخرى للمقدمة النهج الذي تتبناه السعودية والذي مارست ضغوطا حثيثة منذ استضافتها القمة في تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي لتطبيقه والمتعلق بدفع التعاون الدولي من خلال إعفاء الدول الفقيرة من الديون، وسينال هذا النهج مزيدا من الاهتمام في تلك القمة على أمل أن يؤدي إلى دعم الحيز المالي والإنفاق الصحي للبلدان النامية من خلال دعم استقرارها المالي، ومن ثم سيكون هذا النهج وسيلة لربط الاقتصاد بقضية مكافحة وباء كورونا من جانب وربطه أيضا بقضية سبل التصدي للتغير المناخي من جانب آخر". إذا عدنا إلى الركائز الثلاث لقمة روما وهي الكوكب والناس والازدهار، فإننا سنجد أن أكثر المتحمسين للمجموعة لن يستطيع نفي أن عديدا من التحديات الرئيسة التي تواجه المجموعات والأنظمة متعددة الأطراف لا تزال قائمة، وبقدر ما قد يتركه ذلك من صعوبات في الوصول إلى اتفاق عام تفصيلي بشأن جدول الأعمال وركائزه الثلاث، فإن استضافة السعودية قمة العام الماضي، واستعداد ثلاثة اقتصادات ناشئة وهي إندونيسيا والهند والبرازيل لاستضافة قمم المجموعة في الأعوام الثلاثة التالية على التوالي، قد يعزز الجهود المبذولة لتفعيل المجموعة كإطار متعدد الأطراف للتعاون الدولي حاليا ومستقبلا عبر تبني جدول أعمال واقعي يأخذ المصلحة العامة للكوكب في الحسبان دون الإخلال بمصالح الدول الوطنية أيضا.
مشاركة :