المينيماليزم، أو التقليلية، أو الفن التقليلي أحد تيارات الفن المعاصر، الذي يقوم على التجرّد الشكلي والتقليص والحياد، وبتصوّر يقوم على أن تحسين اللوحة يكون بالتنقيص والتقليل والحذف، فلا يبقى إلّا اللبّ والجوهر. ولكن هذا التوجه سبقته تنظيرات الناقد فيلهيلم فوريرنجر في كتابه “التجريد والتعاطف” التي استلهم منها شأنه شأن المدرسة التجريدية. ينطلق كتاب “التجريد والتعاطف” للمؤرخ فيلهيلم فوريرنجر من مسلمة أن العمل الفني يقف ككائن مستقل بجوار الطبيعة وعلى قدم المساواة معها، وفي أعمق أعماق جوهره، مستبعدا أي حال من الاتصال بالطبيعة، بقدر ما يفهم من الطبيعة كمظهر للسطح الخارجي المرئي للأشياء، الجمال الطبيعي هو على أي حال، وفقا للمؤلف، ليس شرطا من شروط الأعمال الفنية، على الرغم من حقيقة أنه في سياق التطور يبدو أنه قد أصبح عنصرا قيما في العمل الفني، وإلى حد ما متجانسا بالفعل إيجابيا داخله. ترجم الكتاب الناقد التشكيلي والمترجم ناجي موسى باسيليوس، لافتا إلى أن الكتاب هو رسالة الدكتوراه من المؤرخ فيلهيلم فوريرنجر في 1906 في تاريخ الفن بنفس العنوان، وقد أحرز قصب السبق فيما طرحه بها من تصورات أثمرت تباعا ما عرف بالمذهب التجريدي الذي أصبح من أشهر رواده فاسيلي كاندنسكي، الذي أنجز أول لوحاته التجريدية عام 1908 ثم توالت أعمال التجريديين من أمثال فلاديمير مالفتش، فرانك ستلا، أرشيل جورجي، جاكسون بولوك، دي كونينج، بيت موندر يان وغيرهم. ثم ظهرت جماعة الشكلانيين الروس الأدبية 1915 وكان أبرز روادها ميخائيل باختين وفيكتور شلوفسكي، الذين دعوا إلى فصل الإبداع الفني عن الظروف المحيطة بنشأته، والتركيز على العمل الفني في ذاته بوصفه بنية مستقلة مغلقة على نفسها. الوجود المطلق للأشياء الكتاب صار مُلهما لجميع الاتجاهات التي عمدت إلى تجاهل حيل البُعد الثالث المنظوري، واستبعاد فكرة العمق لم يقتصر تأثير هذا الكتاب، الصادر أخيرا عن دار سنابل بالقاهرة، على فناني التجريد فحسب، بل امتد إلى جماعة الفارس الأزرق، ومدرسة الباوهاوس، حتى صار مُلهما لجميع الاتجاهات التى عمدت إلى تجاهل حيل البُعد الثالث المنظوري، واستبعاد فكرة العمق مكتفية ببعدي المسطح الطولي والعرضي مثل فن الأداء الحركي والمينيماليزم، التي استلهمت فنون الحضارات. ويشير باسيليوس إلى أن فوريرنجر يدعو في دراسته إلى تجاوز النظرة الأوروبية الضيقة التي تفترض أن التراث الجريكوروماني وعصر النهضة هما المثل الأعلى للفن، ومن ثم نعت جميع فنون الشعوب الأخرى المخالفة بأنها بدائية، متخلفة وقبيحة، وهو ما يدعو إلى رد الاعتبار إلى الأعمال والحكم عليها وفقا لأحكام من أنتجوها وحاجاتهم النفسية. ثم يمضي فوريرنجر في تقديم تصوره عن وجود دافعين محوريين تدور حولهما جميع المنجزات الفنية والدينية على السواء، أحدهما هو الميل إلى التجريد وما يصاحبه من تحفظ تجاه مظاهر الطبيعة والحياة العضوية، بينما الدافع الآخر، التعطفي يتقبل بالرضا مظاهر الحياة العضوية، بل ويجد فيها راحته وضالته المنشودة. ويميل فوريرنجر في دراسته إلى تأكيد أهمية النازع التجريدي لما يسعى له من الإمساك بالوجود المطلق للأشياء في ذاتها، حتى يتحقق لها استقلالها الفردي، بانتزاعها من صلاتها العرضية ببعضها البعض، وعن بقية الأشياء التي تشوش على وضوح الكيان الفردي للكائن المنفرد. ويبين أنه ينبغي تحقيقا لهذا الغرض استبعاد العدو الرئيسي للتجريد، ألا وهو تمثيل الفضاء، أي البعد الثالث، ذلك البعد المنظوري الذي يشكل الإيهام بالعمق الفراغي. لذلك يجب الاكتفاء بالبعدين الطولي والعرضي فقط، حتى يتسنى الاحتفاظ بالقيم اللمسية لبلوغ قدر من اليقين الموضوعي واكتساب صفات الثبات والرسوخ الذي يميز الأشكال اللاعضوية، وقوانين التبلور الهندسية الصارمة، الذي يضفي طابعا تزينيا وزخرفيا، يبتعد عن عرضية الطبيعة الحية ومظاهر الانطباعات البصرية الذاتية الخادعة. ويلفت فوريرنجر إلى أن دراسته تهدف إلى المساهمة في استطيقية العمل الفني، وخاصة العمل الفني لمجال الفن التشكيلي، ويقول إن ذلك لا يعني بوضوح الحد من مجالها في استطيقيات الجمال الطبيعي، أن تخطيطا واضحا من هذا النوع يبدو أعظم أهمية، على الرغم من أن أغلب الأعمال على الاستطيقيات وتاريخ الفن تتعامل مع مشاكل مثل تلك التي أمامنا باستخفاف وتجاهل لتخطيط الحدود وعلى نحو غير متردد تضيف استطيقية الجمال الطبيعي على استطيقية الجمال الفني. إن الاستطيقا الحديثة اتخذت خطوة حاسمة من الموضوعية الاستطيقية إلى الاستطيقية الذاتية، أي لم تعد بعد نقطة بداية استطيقيتها من بحثها الاستقصائي بل تعمل على سلوك التأمل الذاتي الذي بلغ الذروة في التعقيد التي ربما تتميز بالتسمية الواسعة لما يطلق عليه التعاطف. ويضيف فوريرنجر أن غرضه تبيان أن الاستطيقا الحديثة، التي تنطلق من مفهوم التعاطف غير قابلة للتطبيق عبر مخططات حقول واسعة من تاريخ الفن، فنقطة ارتكازها الارشيميدية قائمة على قطب واحد فقط من الشعور الإنساني الفني، يقول “أنا سوف آخذ على عاتقي فقط شكل الإدراك المتسع للنسق الاستطيقي عندما أتحد مع الخطوط المؤدية للقطب المعاكس للتعاطف. نحن نعتبر هذا القطب المعاكس استطيقيا لم يصدر عن رغبة الإنسان في التعاطف، ولكن من رغبته في التجريد، فتماما كما أن الرغبة نحو التعاطف كافتراض مسبق للخبرة الجمالية تجد إشباعها في جمال ما هو عضوي، فكذلك الرغبة في التجريد تجد الجمال في إنكار الحياة باستبعاد العضوية، سعيا للأشكال البلورية أو بشكل عام في كل قوانين التجريد والحتمية”. ويوضح العلاقة بين تقليد الطبيعة والاستطيقية قائلا “ينبغي الاتفاق على أن الدافع إلى التقليد هو حاجة مبدئية وأولية للإنسان، قائمة خارج مجال الاستطيقا وإشباع هذا المبدأ الأصيل لا علاقة له بالفن، ومع ذلك يجب أن نفرق هنا بين الدافع للتقليد ومنهج الفن الطبيعي كنمط من أنماط الفن. فهما غير متطابقين في نوعيتهما الفيزيائية وينبغي فصلهما عن بعضهما بحدة، برغم ما يبدو عليه ذلك من صعوبة. أي التباس أو خلط بين هذين المفهومين مشحون بعواقب وخيمة. أنها على الأرجح وراء جميع الأسباب التي يعزى إليها سوء الفهم الذي يقع فيه أغلبية الأشخاص المتعلمين تجاه الفن”. ويتابع “الدافع البدائي للتقليد ساد وانتشر عبر كل العصور، وتاريخه هو تاريخ التدليل على البراعة الحالية من ثقل المغزى الجمالي، في الزمن الأول كان هذا الدافع منفصلا تماما عن الدافع الفني المناسب، وقد وجد قناعته حصريا في المنمنمات ‘منياتور‘، مثلما في تلك الأصنام الصغيرة والرموز البسيطة التي نعرفها من العصور المبكرة للفن، والتي غالبا ما تكون في تناقض مباشر مع إبداعات الفن النقية لدوافع فن الشعوب الذي يتجلى فيه ما يعنيه لهم. ولا نحتاج إلا إلى أن نذكر كيف أنه في مصر مثلا، أن دافع التقليد والدافع الفني استمرا بشكل متزامن ولكن بشكل منفصل بجوار بعضهما بعضا. ففي حين أن الفن الشعبي كان يتم إنتاجه بواقعية مذهلة، مثل تمثال الكاتب أو شيخ البلد، بينما الفن المنضبط الوقور والذي يوصف بشكل غير صحيح بأنه فن البلاط، قد عرض أسلوبا صارما متحاشيا كل واقعية. وهنا لا يمكن أن يكون هناك طرح لأي تساؤل سواء كان عن قصور أو تثبيت جامد، ولكن هذا كان دافعا نفسيا خاصا يسعى هنا للإشباع”. قيمة العمل الفني Thumbnail يرى فوريرنجر أن الفن الملائم في جميع الأوقات يستوفي حاجة نفسية عميقة، ولكن ليس له الدافع إلى التقليد الخالص، كتلاعب مبهج يكتفي بنسخ النموذج الطبيعي، ثم إن هالة القداسة التي تغلف مفهوم الفن بكل إخلاص وتبجيل كانت ممتعة في جميع الأوقات، ويمكن أن يكون الدافع النفسي لفكرة الفن قد نشأ فقط عن الحاجات النفسية ولإرضاء هذه الحاجات النفسية. وبهذا المعنى وحده يكتسب تاريخ الفن نفسه دلالة تعادل تقريبا أهمية تاريخ الدين، والصيغة التي اتخذها شمارسوف كنقطة بداية لمفاهيمه الأساسية “الفن هو نزاع للإنسان مع الطبيعة”، وهي صيغة صالحة إذا كانت كل الميتافيزيقا قد اعتبرت أيضا في الأصل بمثابة نزاع للإنسان مع الطبيعة، وبعد فإن الدافع البسيط إلى التقليد سيكون له على كل حال الكثير أو القليل ليؤديه في التدخل مع هذا الحافز للنزاع مع الطبيعة، وكذلك من الناحية الأخرى فإن استغلال قوى الطبيعة له علاقة بالدافع النفسي الأعلى لخلق الآلهة ذاتها. ويؤكد المؤلف أن قيمة العمل الفني فيما نسميه الجمال في قدرته بشكل عام على منح السعادة، قيمة هذه القوة تقف بطبيعة الحال في علاقة سببية مع الاحتياجات التي تشبعها، وبالتالي فإن الإرادة الفنية المطلقة هي مقياس لنوعية هذه الاحتياجات النفسية. وحتى الآن لم يكتب عن الحاجة النفسية للفن شيء. وفقا لوجهة النظر الحديثة عن الحاجة للأسلوب، سيكون هناك تاريخ عن الشعور الفني بالعالم، وعلى هذا النحو فإنه سوف يقف جنبا إلى جنب على قدم مساواة مع تاريخ الدين. ويضيف “أنا أعني حول شعورنا عن العالم والحالة النفسية، في كل وقت من الأوقات، وجد البشر فيها أنفسهم في علاقتهم بالكون وما يتعلق بظواهر العالم الخارجي. هذه الحالة النفسية يتم الكشف عنها في نوعية الاحتياجات النفسية، أي تعيين دستور الإرادة الفنية المطلقة، التي تتحمل إخراج ثمار الأعمال الفنية، لكي تكون بمثابة التعبير الضابط للأسلوب أخيرا، وطبيعته المحددة والتي هي ببساطة طبيعته المحددة من جانب الاحتياجات النفسية، وهكذا فإن الدرجات المختلفة من الشعور حول العالم وعنه يمكن قياسها من تطور الأسلوبية في الفن، تماما مثلما تقاس أنساب أو مولد الآلهة للشعوب”. تأثير الكتاب لم يقتصر على فناني التجريد فحسب، بل امتد إلى جماعة الفارس الأزرق، ومدرسة الباوهاوس، حتى صار مُلهما لجميع الاتجاهات التى عمدت إلى تجاهل حيل البُعد الثالث المنظوري ويشير إلى أن كل أسلوب يمثل أقصى قدر يمكن منحه من البهجة للبشر الذين خلقوه، هذا ما يجب أن يصبح العقيدة العليا لجميع الاعتبارات الموضوعية لتاريخ الفن، ما قد يبدو من وجهة نظرنا على أنه أكبر تشوه كان بالنسبة إلى وقته، وخالقه الجمال الأعلى وأوج الاكتمال لطموح إرادته الفنية، وبالتالي كل التقييمات المطروحة من وجهة نظرنا، ومن وجهة نظرنا عن الاستطيقا الحديثة، التي تسمح فقط بتمرير الأحكام المحصورة في حس العصور الكلاسيكية أو عصر النهضة، هي من وجهة نظر أرقى وأشمل لا معقولة وتافهة. ويقول فوريرنجر إنه يمكن النظر إلى التعاطف على أنه افتراض مسبق لإرادة فنية تنزع نحو حقائق الحياة العضوية، وذلك يعني وجود إحساس عال نحو الطبيعة، هذا الإحساس بالسعادة التي يتم إطلاقها بداخلنا بإعادة استنساخ الحيوية الطبيعية، وما يحدد الجمال للإنسان الحديث، هو في إشباع الحاجة الداخلية للفاعلية الذاتية التي رأى فيها ليبس الافتراض الأولي لعملية التعاطف. في أشكال العمل الفني نحن نمتع أنفسنا. الاستمتاع الاستطيقي يموضع الاستمتاع الذاتي، فالقيمة التي في الخط والتي للشكل تتكون لنا من قيمة الحياة التي تحملها لنا، إنها تحمل جمالها فقط عبر مشاعرنا الحيوية الذاتية، والتي نشرع في تدبرها بطريقة غامضة بعض الشيء. بإعادة التدبر في الأشكال التي لا حياة بها كالهرم أو الحياة المقموعة والتي تتجلى مثلا في الفسيفساء البيزنطية يتم إخبارنا أن الاحتياج إلى التعاطف، الذي يميل دائما لأسباب واضحة تماما نحو العضوية، لم يكن بإمكانه في هذه الأحوال حسم اختياره للإرادة الفنية، ومن المؤكد أن الفكرة التي تفرض نفسها علينا هنا هي أن الدافع الذي كان لدينا يعرض مباشرة الدافع إلى التعاطف، والذي يسعى لقمع تلك الحاجة التي تجد في التعاطف مبتغاها المشبع. ويتابع أن القطب المضاد للحاجة إلى التعاطف يظهر لنا بكونه رغبة تحث على التجريد، ويضيف “مدى الدافع إلى التجريد الذي حدد الإرادة الفنية يمكننا استنتاجه من واقع الأعمال الفنية المتحققة، والنزوع إلى التجريد قام عند بداية كل فن وبالتحديد في حالة شعوب على قدر عال من الثقافة بقيت هي الميل السائد بينما الإغريق وغيرهم من الشعوب الغربية، مثلا، تم تراجع بطيء أفضى إلى إخلاء السبيل أمام دافع التعاطف”.
مشاركة :