عندما انتهى إرنست غومبرتش من صياغة كتابه المعنون «قصة الفن» في العام 1950 وشهد فرحا صدوره في كتاب لايقل فخامة عن أفخم الكتب الفنية التي كانت تصدر في ذلك الحين، لم يكن في وسعه أن يتوقع ولو في أكثر أحلامه تفاؤلا، ذلك المصير الذي سوف يكون للكتاب طوال العقود التالية. لم يكن يتوقع أن تقترب طبعات الكتاب في لغته الإنكليزية الأصلية الى ما يقرب من عشرين طبعة حتى الآن. لكنه بصورة خاصة، ما كان من شأنه ان يتوقع من ناحية ثانية، ان يترجم الكتاب الى معظم اللغات الحية في العالم. فالكتب التي تتناول تاريخ الفن، سواء كان غربيا أو شرقيا، لم تكن تحظى بمكانة متقدمة في أي قائمة للكتب الأكثر مبيع في العالم، ومع هذا حصلت تلك «المعجزة الصغيرة» بحيث ان الكتاب لم يكتف بأن يحقق نجاحا لدى الفنانين وطلاب الفنون ومن شابههم، بل صار المرجع الأساسي لأي قاريء يريد ان يعرف كيف تطورت فنون العالم، بما فيها من رسم ونحت وهندسة عمرانية، وكيف تتطورت نظرة الإنسان اليها. ولعل ما يلفت النظر حقاً هو أن المؤلف جعل من عمله هذا نوعاً من «العمل قيد التحقق» بصورة دائمة، بمعنى أنه ما لبث طبعة بعد طبعة، يزيد إلى الكتاب فصولاً ومناطق وأجناساً فنية، ليس فقط تبعاً للتطورات التاريخية التي كانت تطرأ وبطريقة متسارعة على الموضوع، عاماً بعد عام إذ تأتي كل طبعة أكثر اكتمالاً من سابقتها، بل حتى - وربما خاصة – على ضوء الانتقادات التي كانت توجّه إلى عمله في شكل عام وإلى هذا الكتاب في شكل خاص. ومنها «مركزيته الأوروبية» وعدم اهتمامه بفنون المناطق البعيدة من المركز، ومنها «سهوه» عن الفنانات الإناث على مدى التاريخ، ولا سيما في القرن العشرين الذي شهد فورة في دخول المرأة عالم الفن، وكذلك نزعته «المدرسوية». وكان من أبرز نقاده كارلو غينسبرغ وسفيتلانا آلبرز ومايكل باكساندال. أما غومبرتش فإنه بدلاً من أن يخوض معهم سجالات غير ذات طائل، عمد إلى تطوير كتابه على ضوء «تصويباتهم» إذ صار العمل، منذ طبعته العاشرة على الأقل، مثالياً في مجال «المساهمة شبه الجماعية» في وضع تاريخ متكامل لهذه الفنون. > فهل نقول إن هذا كان من حسن حظ الترجمة العربية، التي صدرت هذه الأيام لسفر غومبرتش ضمن، إطار المشروع الطموح الذي تقوم به «هيئة البحرين للثقافة والآثار» برئاسة مي آل خليفة بعنوان «مشروع نقل المعارف» وهو مشروع يشرف عليه الباحث التونسي طاهر لبيب الذي كان سبق أن أسس في بيروت «المنظمة العربية للترجمة»؟ بالتأكيد لأن الترجمة التي قام بها، في شكل متميز لغوياً وسلاسةً، المترجم والكاتب السوري عارف حديفة، انطلقت من الطبعة السادسة عشر التي هي حتى الآن، أكثر طبعات الكتاب اكتمالاً وأكثرها استفادة من مجموع الملاحظات والانتقادات التي وُجّهت إلى «قصة الفن» على مدى أكثر من نصف قرن. فإذا أدركنا أن الطبعة التي ترجمت إلى العربية باتت تجعل منه اليوم كتاب الكتب في مضماره، والكتاب الذي لا تستغني عنه أية مكتبة لأي مثقف وهاوي فنون في العالم، نفهم لماذا نثني هنا، ولو لمرة استثنائية على تأخير حدث في ترجمة كتاب معين إلى العربية. > غير أن المسألة لا تتعلق هنا بنص الكتاب وحده، والذي لا بد من الإشارة إلى أن المترجم العربي «أعاد من أجله خلق لغة مصطلحية فنية وتاريخية عربية غير مسبوقة أحياناً». فالحقيقة أن غومبرتش في الوقت الذي كان ينجز فيه كتابه بعد شهور قليلة من حصوله على الجنسية الإنكليزية عام 1947، كان يقول إن مشروعه وأمنيته في البداية كانا في أن يحمل الكتاب صوراً ملونة لكل عمل فني ذُكر فيه على الإطلاق. ولقد كان من شأن هذا بالطبع، أن يجعل صفحات الكتاب تربو على الألوف وبالتالي تجعل كلفته من المستحيل على أي كان شراء نسخة منه، ومن هنا اكتفى «مكرها» بنحو ثلاثمئة صورة راحت تزداد طبعة بعد طبعة حتى أربت على الأربعمئة. من هنا، فإن الترجمة العربية التي تتوافر اليوم لقارئ لغة الضاد توازن بين البعد السردي والبعد البصري في شكل ندر أن أُتيح لأي كتاب اُلّف، أو تُرجم إلى، العربية، إذ إن المرء لو قارن بين الأداء الفني في مجال نسخ اللوحات وإخراج الكتاب لوجد النسخة العربية متميزة عن نسخ كثيرة من الكتاب. وبالتالي، من ناحيتي شكل الكتاب ومضمونه، ومن هنا لسنا نعتقد أننا سنكون على شيء من المبالغة إن نحن نظرنا اليوم إلى ترجمة كتاب غومبرتش إلى العربية على أنه واحد من أجمل الكتب التي صدرت في لغتنا. ولكن، بعد كل شيء، يبقى أن نتساءل ما هو هذا الكتاب؟ ولماذا نجد من الضروري الترحيب به هنا؟ > «قصة الفن» كما يمكن لقارئ السطور السابقة أن يدرك، هو نصّ مسهب يتناول تاريخ الفنون التي حققها الإنسان منذ أزمانه الأولى وحتى نهايات القرن العشرين. والمؤلف لكي يروي هذا التاريخ قسّم كتابه إلى ثمانية وعشرين فصلاً - كانت 27 في الطبعات الأولى - يتناول كل واحد منها حقبة تاريخية معينة وكُتب في شكل يجعل من المنطقي أن تودي كل حقبة إلى تلك التي تليها. وبالتالي من الواضح أن المؤلف يتوخى من مثل هذا التقسيم التتابعي أن يؤكد في شكل منطقي إن لم يكن بفصاحة زائدة، عن وحدة العقل البشري خارج إطار التقسيمات العرقية والجغرافية. صحيح أن هذا الاستنتاج، الذي قد يجده بعض نقاد الكتاب مقحماً عليه من خارجه، يتناقض مع ما نُعت به الكتاب من أنه غربيّ المركزية، غير أن قراءة متأنية للنصوص المتتالية توصل إلى تلك الفكرة الإنسانية الشاملة في مجال الفنون. فبعد كل شيء يرى المؤلف أن الفنون التي حتى وإن كانت قد وُلدت غفلة من التواقيع - بدءاً من رسوم الكهوف إلى هندسة الكاتدرائيات - فإن الذين حققوها كانوا أولئك الأفراد المميزين الذين قد لا نعرف أسماءهم أبداً، لكننا نعرف دوافعهم، سواء أكانت دينية أو إجتماعية أو سيكولوجية. وانطلاقاً من هذه الفكرة يرسم غومبرتش، فصلاً بعد فصل صورة جزلة لتطور علاقة الإنسان بالفن، سواء كان فناً تعبيرياً- ولا نتحدث هنا طبعاً عن المدرسة «التعبيرية» بصورة خاصة، بل استخدام الإنسان الأشكال والألوان للتعبير عن نفسه -، أو فناً وظائفياً، كالهندسة العمرانية مثلاً. ولا بد من التذكير هنا بأن اختيار الكاتب لمبدأ أن يكون كتابه مصحوباً بأكبر عدد ممكن من الرسوم، يحول النصّ إلى رحلة بصرية متكاملة. لكن الأهم من هذا أن المؤلف، وحتى من دون أن يكون متأثراً بمدرسة «الحوليات» التاريخية الفرنسية التي تربط حركة التاريخ الكبير بحركيات التواريخ الجانبية، كالمجتمع والاقتصاد والفنون، يسفر الأمر معه عند الانتهاء من قراءة الكتاب إلى اكتشاف القارئ أنه إنما غاص، أيضاً، في تاريخ الإنسانية من خلال غوصه في تاريخ آلاف السنين من عمر الفن. وحسب المرء هنا أن يقرأ عناوين بعض الفصول لكي يدرك أهمية هذا الجانب من الكتاب: «فن للأبدية، مصر وبلاد الرافدين وكريت»، «مملكة الجمال، اليونان والعالم اليوناني»، «فاتحو العالم»، «نظرة إلى الشرق، الإسلام والصين»، «الكنيسة المنتصرة»، «رجال البلاط وسكان المدن»، «انتشار العلوم الجديدة»، «السلطة والمجد» في فصلين احدهما عن فرنسا وألمانيا والنمسا والثاني عن إيطاليا»، «عصر العقل»، «الثورة الدائمة»..... والحقيقة أن هذا التقسيم الذي لا يمكن اعتباره مسألة لغوية هو الذي يضع «قصة الفن» في مصاف الكتب الكبرى التي عالجت تاريخ البشرية خارج الإطار المحدود للتطورات السياسية، كأعمال بوركهارت حول عصر النهضة أو فرنان بروديل حول التاريخ الاقتصادي والمتوسطي، ومن هنا نجدنا نختم هذا الكلام بالإشارة إلى أننا لو كنا نحن العرب واحداً من تلك الشعوب السعيدة لكان من شأننا أن نحتفل بصدور هذا الكتاب بلغتنا ونشتغل على تحفيز من يشتغل على بعض تواريخنا في شكل مشابه. > ويبقى أن نشير إلى أن المؤلف إرنست غومبرتش (1909 - 2001) مؤرخ وباحث ولد في فيينا وعاش معظم حياته العلمية في انكلترا، وله عشرات المؤلفات في الفن والتاريخ والصورة وبخاصة فنون عصر النهضة، وكان كثر يقرّون بتأثرهم به ومن بينهم أومبرتو إيكو.
مشاركة :