يسرّني أن أقدّم اليوم مقالاً ثانيًا مقتبسًا بتصرّف من كتاب «مذكرات شريفة الأمريكانية» الصادر عن مؤسسة (بانوراما الخليج) عام 1989م. كانت أول محاولة لحفر بئر ماء هي في الساحة التابعة للمستشفى، ولكن هذه البئر كانت قليلة العمق نسبيًا، ولذلك كانت تشبه الآبار الأخرى الطبيعية الموجودة في البحر، ومالحة الطعم. أصرّ القس «بيننج» على المحاولة من جديد ولكنه هذه المرة حفر بئرًا أعمق وطلب طاحونة هوائية من أمريكا لضخ الماء إلى السطح. ولقد كان المراقبون من الغرب - مثل غيرهم في البلاد - يقفون للمراقبة ولإعطاء نصائحهم - التي أعتقد أنها كانت سلبية أكثر منها إيجابية في إنجاح العمل - إلا أن القس كان مثابرًا في عمله وكان يقول لنفسه: «بأنه لا يوجد هناك أي شيء تتعلّمه في بلدك ولا تحتاج إليه هنا». ووصلت أول طاحونة هوائية أمريكية إلى البحرين مجزأة إلى أكثر من 100 قطعة، ومع كل هذه القطع كان هناك مفكان فقط، فكيف يمكن لكل هذه الأجزاء أن تركب بمفكين فقط. ولكن لحسن الحظ وبجهود أفراد الإرسالية تم تركيب الطاحونة معا. كانت في بادئ الأمر موضوعة على الأرض بشكل أفقي، حيث كان من المفروض أن نرفعها إلى وضعها العمودي في ساحة المستشفى بواسطة رافعات يشدها الرجال، ولذلك عمل أفراد الإرسالية بكل جهد وتحت الشمس المحرقة ليتمّوا عملاً كانوا يفخرون به وبالفعل كان الأمر يستحق الفخر. وفي اليوم المحدد لرفع الطاحونة، أعددنا العدة ليكون ذلك اليوم بمثابة الاحتفال للجميع. قمنا ببعض الغناء، ثم أدلى بعض الرجال بخطبهم، وبعد ذلك أزفت الساعة لأعلن للرجال على سطح المستشفى بأن يشدّوا الحبل لرفع الجسم الضخم - جسم الطاحونة الهوائية -، وبدأ الرفع وبدأ البرج في الارتفاع لوضعه العمودي مع الكثير من الأصوات العالية للحديد وهو يحتك مع بعضها البعض. وبدأ الحديد في الجوانب ينكسر كلما ازداد الرفع، وبدأت النداءات بين الرجال على السطح والرجال على الأرض وكذلك شارك بعض الواقفين في إعطاء نصائحهم، ولكن الأهم من ذلك أن جميع من كان يقف في أسفل البرج وحوله هربوا خوفاً من الكارثة المحتومة. وبالفعل حدث الكارثة، فعند زاوية مقدارها 45 درجة ازداد الشد على الحديد المكون للبرج وانكسر الحديد وانفصلت قوائم البرج وسقط البرج وكأنه قطعة «سباجيتي» مفتتة تهوي إلى الأرض، ووقف العمال ينظرون بيأس، كما أذكر بأنني بكيت يومها. بقى البرج الميت على الأرض طيلة ذلك اليوم، والجميع حزن عليه. وفي اليوم التالي ولحسن الحظ كانت هناك سفينة ترسو في الميناء اسمها «اس - اس اسبريه» وكان على متنها أحد المهندسين ويدعى «كوربيت»، فهرع إلى المستشفى عندما سمع بمشكلتنا ليتبين الأمر، ثم استقدم بعض البحارة الشجعان لمعاونته في إعادة تركيب البرج وإصلاح الحديد المقوس والمتكسر منه، هذه المرة نجحت محاولة رفع الطاحونة التي تحملت قوة الشد ووقفت شامخة في أرض المستشفى والتي تشهد جميع الصور التي التقطت للمستشفى بعد ذلك على عظمتها، وعلى أنها كانت أعلى مكان يمكن أن تراه في تلك المنطقة بأسرها. وبدأت المياه العذبة في التدفق من البئر العميقة بعد يومين فقط وكانت بالفعل مياه حلوة. كم كانت سعادتنا بتلك المياه والتي حصلنا عليها من أرض المستشفى نفسها دون مشقة العناء والذهاب للبحر. كان القس «بيننج» هو بطل هذه القصة التي انتشرت لتعم أرجاء البحرين. ولم تمض فترة طويلة حتى سارع كبار التجار العرب يطلبون فيها طواحين هوائية من هذا القس الذي سارع لمساعدتهم في نصب طواحينهم الهوائية، وشيئًا فشيئًا كثرت هذه الطواحين وأصبحت منظرًا مألوفًا في سماء البحرين.
مشاركة :