الطريق الأول الذي احتج به الغزالي، وعلل به دعوته إلى زجر الناس، ما زال كثيرون يتحدثون عنه، وينطلقون في تفكيرهم منه، وهو قولهم المشهور: إن فلانا يدسُّ السم في العسل، ويُخفي الباطل في تضاعيف الحق، وهذا الطريق أحد أسس ثقافة الانغلاق، وواحد من المبادئ التي يتكئ عليه الأوصياء عن الناس، قبل أن تأخذ المنون أبا حامد الغزالي، وتقريبا في عام ثلاثة بعد الخمسمئة، صدرت فتوى من فقهاء قرطبة، تُحرّم على الناس مطالعة آثاره، خاصة الإحياء، وتُفتي بكفر من يقرأ هذا الكتاب، ويطالعه، وتبع ذلك أن سعى فقهاء قرطبة، وعلى رأسهم أبو القاسم بن حمدين، إلى استصدار موافقة الحاكم المرابطي ابن تاشفين على حرق الإحياء، فجُمعت نسخه في قرطبة، وأُتي بها، ولُملمت في سائر مدن المغرب، وجرى لها ما أراده فقهاء المغرب في تلك الحقبة، ولم يكن في وسع الغزالي الذي يعيش في المشرق الإسلامي أن يُدافع عن نفسه، ويُحامي عن كتبه وآثاره. تلك هي ثقافة الانغلاق، حمانا الله في بلاد الحرمين منها، القائمة في الظاهر على حماية دين الناس، والخوف عليهم، وهي في الباطن تتدثّر بالمسؤولية عنهم أمام الله تعالى، وتسعى أن تقف بين يدي الله عز وجل بدلهم حين تُقام موازين القسط، ويؤوب الناس إلى ربهم، والله تعالى يقول في كتابه (كل نفس بما كسبت رهينة)، ويقول فيه مخاطبا رسوله، عليه الصلاة والسلام، (وما أنت عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). هذه الثقافة تقود الناس إلى إيصاد أبواب المعرفة، وإقفالها أمام طلابها، وتدعوهم إلى البُعد عن المخالفين وآثارهم، والاحتياط من معاشرتهم حسا ومعنى؛ خوفا على دينهم، وحدبا على صلاحهم، وقصة الفقهاء مع كتب الغزالي نموذج محزن لها، وصورة مقلقة من صورها. الإطار الذي انطلق منه الفقهاء في موقفهم من الغزالي، وانبثقت منه فتواهم فيه وفي آثاره، اتّخذه الرجل في موقفه من الفلاسفة والفلسفة، وجرى عليه في النظر إليهما، وإذا كان الفقهاء قد اندفعوا بالخوف على الناس، والوصاية عليهم، إلى تحريم قراءة كتب الغزالي، والاطلاع عليها، ودعاهم ذلك إلى إحراق الإحياء، وارتكبوا مظلمة عظيمة في حرية الناس واختيارهم إبان تلك الفترة، وحقهم في المسؤولية عن أنفسهم؛ فإن الغزالي قد فعل ما فعلوه، وانطلق من إطارهم الذي اتخذوه، وإن بدا أقل عنفا منهم، فهو يرى نفسه وصيا على القراء، ومسؤولا عنهم، ويدعو صراحة في منقذه إلى زجرهم عن قراءة كتب العلم التي خلّفها الفلاسفة، وأبلوا فيها بلاء حسنا عنده، فيقول: "فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني، وفي الإلهيات تخميني، لا يعرف ذلك إلا من جرّبه، وخاض فيه، فهذا إذا قُرّر على هذا الذي ألحد بالتقليد، ولم يقع منه موقع القبول، بل تحمله غلبة الهوى، والشهوة الباطلة، وحب التكايس على أن يصرّ على تحسين الظن بهم في العلوم كلها، فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم!" (المنقذ من الضلال، 47). كما قال الغزالي فعلت فقهاء قرطبة به؛ فزجروا الناس بالتكفير عن إحيائه وغيره، وحالوا بينهم وبينه، وتلك طريقة من طرق الزجر يجد لها الفقهاء الحيل الموصلة إليها، والدروب الموفية بالناس عليها، وهي وإن برزت على يد أولئك الفقهاء في صورة فجّة منكرة، فقد وردت مجملة على قلم الغزالي في منقذه، وللفقهاء المؤمنين بهذه الفكرة من بعده؛ أن يتخذوا الطرائق المختلفة في إيقاع الزجر، وتنفيذ هذه الوصية، وأخذ الناس الذين يُخالفون أمره بها، وهكذا يظهر الغزالي، رحمه الله، وهو المعدود عند كثيرين فيلسوفا، وحجة، وإماما مجتهدا، أحد دعاة المذهبية والجمود والانغلاق، وأحد منظّري فقه الوصاية، والمسؤولية عن الناس الذين لم يجعل الله له، ولا لغيره، سبيلا عليهم إلا سبيل الحكمة والموعظة الحسنة. والأغرب من دعوة الغزالي المجملة إلى الزجر من قراءة الرياضيات وتعلمها، والمنع منها، تعليله هذا الزجر، وتسويغه له قائلا: "فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم، فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين، ولكن لما كانت من مبادئ علومهم سرى إليه شرّهم وشؤمهم! فقلّ من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين، وينحل عن رأسه لجام التقوى!". لم يكتف الغزالي في سبيل زجر الناس عن علوم الفلاسفة البرهانية، ومنها الرياضيات، بتكفير الفلاسفة، وفضح انحرافهم الديني، بل اضطر إلى تخويفهم منهم مرة أخرى بطريقين: الأول أن شر الكفر وشؤمه يسري إلى علومهم، وتنطبع به. والثاني أن الغزالي يرى أن معظم من يُطالع الرياضيات، ويخوض فيها، ينخلع من الدين، وينزع عنه لباس التقوى، وهذا وذاك، على قبول قول الغزالي فيهما، راجعان أولا إلى فكرة الخوف على الناس والوصاية عليهم، والشعور بأن الإنسان مسؤول عن الناس، وملوم على ما يتخذونه لأنفسهم. الطريق الأول الذي احتج به الغزالي، وعلل به دعوته إلى زجر الناس، ما زال كثيرون يتحدثون عنه، وينطلقون في تفكيرهم منه، وهو قولهم المشهور: إن فلانا يدسُّ السم في العسل، ويُخفي الباطل في تضاعيف الحق، وهذا الطريق أحد أسس ثقافة الانغلاق، وواحد من المبادئ التي يتكئ عليه الأوصياء عن الناس، والغريب عندي أن ينخرط الغزالي في المنطق، ويدافع عنه، ويرى أن "كل نظر لا يتزن بهذا الميزان، ولا يُعاير بهذا المعيار، فاعلم أنه فاسد العيار، غير مأمون الغوائل والأغوار" (معيار العلم، 27) مع أنه في منقذه جعله شريكا للرياضيات في آفتها تلك فقال عنه: "وربما ينظر في المنطق أيضا من يستحسنه ويراه واضحا، فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيد بمثل تلك البراهين، فيستجعل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية، فهذه الآفة أيضا متطرقة إليه". والطريق الثاني وعظ الناس بضرب المثل لهم بالآخرين الذين لم ينزجروا عن الفعل، ولم يسمعوا حديث الناصح، فأقبلوا على الرياضيات، وانكبوا عليها، فكانت نهايتهم الخروج من الدين، والبعد عن طريق التقوى، وهذا مسلك تفرضه ثقافة الوصاية على الناس، وتدعو إليه، ولا تكاد تجد أحدا يُحذر من شيء، أيا كان هذا الشيء، إلا وجدتَه يحكي مثل هذه الأقاصيص، ويطرق بها أسماع الناس، وإن كانت أحيانا كثيرة كذبا يُراد منه تحقيق غرض نبيل، وهدف سام!. لو سرنا على نهج أبي حامد، وجعلناه لنا إماما في طرحه هذا؛ لامتنعنا أن ننتفع من ثمار العقل الأوروبي، والعقل الشرقي، الهندي والصيني والياباني والكوري، ولرأينا، وهذا بطبيعة الحال رأي مقلدي أبي حامد في هذه الأعصار، أن يدع الناس الذهاب إلى هذه الأمم، ويتركوا الإفادة منها، والاسترشاد بما حصَّلته من علوم دنيوية؛ لأن دقة هذه العلوم، وروعتها، وانتظام هذه المجتمعات، وتقدمها؛ يوشك أن يُدخل على المسلمين الشك في دينهم، والغنية عنه، ويشعرهم أن علوم هؤلاء الدنيوية المتقدمة تجعل ما هم عليه من تصورات دينية أولى بالقبول، وأحرى بالرعاية، ومعنى ذلك أننا لن ننفتح على أمم العصر إلا إذا كنا قادة للعلم، وسادة فيه، وهذا ما لا يكون أبدا؛ لأن من يبغي طريق العلم فلا بدّ أن يمرّ على أرض هذه الأمم، ويروح إلى جامعاتها، وهكذا ننتهي إلى أن نجعل دين الناس، والخوف عليه، سببا من أسباب محاربتهم للعلم، وتجافيهم عنه، ويضحي العلم عدوا للدين عند الناس؛ لأن منتجيه، والقائمين على تطويره، من أعداء الدين الذين يتركون بصمتهم الشريرة فيه، فينصرف الناس إلى الخرافة والخرافيين، ويقفون زُرفات ووحدانا أمام أبواب الرقاة والعزّامين، ولعل في واقعنا هذه الأيام من الشواهد ما يدل على هذا ويؤكده.
مشاركة :