ماذا لو كان الغزالي يونانياً؟ - د. إبراهيم المطرودي

  • 11/12/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لقد كانت المقدمة التي نسيها الغزالي حين أصدر تكفيره لأشخاص الفلاسفة، وليس آراءهم، المقدمة الأساسية في حكمه، وهي معرفة عصرهم، وكيف كانت حال التصورات الدينية فيه، فنسيانه هذا جرّه إلى فعل شبيه بفعل العرب مع الثور وبقره لو عاش الغزالي في تلك القرون الأولى، وساكَنَ سقراط وأفلاطون، ومِن بعدهما أرسطو، فما عساه أن يقول في تلك القضايا التي كفّر في ثلاث منها الفلاسفة، وبدّعهم في أخواتها؟ حين كفّر الغزالي أعيان الفلاسفة، وبدّعهم، كان المظنون به أن يحتج عليهم من الكتب الدينية التي نزلت من عند الله تعالى في عصرهم، ونقلتها إليهم أنبياؤهم، فإذا ثبت له ثبوتا قطعيا أن نبيا من الأنبياء كان زمن أرسطو، وأن ذلكم النبي دعاه إلى ترك ما ابتدعه، وبيّن له زيغه عن الحق بكتاب يقرؤه عليه من عند الله تعالى، وأقام عليه الحجة فيه، فعندئذ يكون الغزالي قد جاء بالدليل، وقطع الشك باليقين في أمر أرسطو وشيعته؛ أمَا وهو يُحاكم جماعة عاشت قبله بألف ونصف الألف من الأعوام، ويحتج عليها بما أنزله الله تعالى على نبيه محمد، عليه الصلاة والسلام، فهذا مثار غرابة، ومحط سؤال؛ لأنه من جنس محاكمة الإنسان على ما لم يبلغه، أو ما شُكّ في تبليغه إياه، وذاك أمر جاء الكتاب بنقضه، ومنع المرء من الذهاب إليه؛ إذ يقول الله في محكم تنزيله (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). محاكمة الناس بما قرّ في زمن الإنسان، وعُرف فيه، وأصبح بداهة دينية، يُعدّ مظلمة لهم، وبخسا لأهم حق من حقوقهم، وهو أن يُنظر إليهم، وإلى ما اتخذوه من رأي، وآمنوا به من فكرة، من خلال ذلكم العصر، وما كان شائعا فيه من ثقافة وفكر ورأي؛ فالإنسان ابن عصره، وابن بيئته، وابن محيطه، ومن عرف تأثير المحيط، وهيمنته، وسطوته، كان أكثر رحمة بالناس، وأقرب إلى الصواب في الحكم عليهم، وتقييم أقوالهم، ومن استدبر ذلك كله، فلم يعبأ بعصور الناس، ولم يُدرك طغيان العصور وثقافاتها عليهم؛ أوشك أن يرميهم بما كان ممكنا أن يُرمى به، ويُدان هو بقوله؛ لو عاش في عصرهم، وقطن في ديارهم، واستقى معرفته منهم، ورضع من لبان زمنهم. هجم الغزالي على الفلاسفة الأولين، واتّخذ ما كتب الله له أن يعيش فيه، وينعم بحقائقه الدينية، ولم يكن له جهد في تكوينه، حجة له في تكفيرهم، وبرهانا من براهين زيغهم عن الحق، وضلالهم عنه، وأحسبه لم يُكلّف نفسه أن يتعرّف على محيطهم، ويكتشف صورة الدين في عصرهم، ولو فعل ذلك لكان حريا به أن يكون أرفق بهم، وأعذر لهم، وأرفق بنفسه، وأرحم لها؛ لأن الناس سيُعاملونه بمثل معاملته، وينهجون معه نفس نهجه، وكما قال المصطفى، عليه الصلاة والسلام،: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، والناس كلهم إخوة لنا، ومن منّا يُريد أن يُنظر إليه بما استقرّ في عصرٍ غير عصره، وتُقيّم جهوده بجهود الناس في غير زمنه؟ في تأريخ المسلمين سؤالان محوريان: الأول متى يكفر الإنسان؟ والثاني متى لا يكفر؟ والظاهر أن المتغلب على الوعي، والمالك له، هو الأول وليس الثاني حتى أضحى المسلمون يستسيغون التكفير، ويتساهلون فيه، وينجرون خلف دعاته، ويتوقفون في نفيه، وعدم وسم الآخرين به؛ يأخذ بهم إلى هذا أنهم ينطلقون من بيئاتهم، وما استقرّ فيها، ويغفلون عن بيئات الآخرين، ثقافية وغير ثقافية، ولا يلتفتون إليها، ولو أن كلّ إنسان استحضر ما يُحيط بالإنسان، واستذكر عسورة خروجه منه؛ لكان المتغلب علينا، والفائز في ثقافتنا، هو البحث عن أسباب عدم التكفير، والمضي في سبيل إيجاد علل عدمه، غير أنّ الإلف، وما يصحبه من تحويل المألوف إلى بداهات، حرمنا من هذه الخصلة، ونزعها عنا، وصرنا كخلق الله في كل زمان ومكان؛ نُعاير الناس بما عندنا، ونزنهم بموازيننا الظرفية، ونغفل تمام الغفلة عمّا يخضعون له، ويعيشون تحت ضغوطه، والغريب أننا ما زلنا نردد مع المرددين: الإنسان ابن عصره، وابن بيئته!. تلك هي آفة الغزالي في موقفه من الفلاسفة، وهي الآفة التي جلبها التقليد، واستحكمت به، وجعلته يُخرج الفلاسفة الأولين من عصرهم، ويُحضرهم في محكمة عصره، وينتظر منهم أن يقولوا بما جاء به الإسلام، ونقله رسولنا، عليه الصلاة والسلام، فصاروا يُحاكمون بما لو عاشوا فيه، وأدركوا زمانه؛ لربما كانوا معه، وآمنوا بما فيه، وما دفع الغزاليَّ إلى هذا المنحى، واضطره إليه، إلا غضبُه من أهل عصره، الذين كانوا معه فيه، وما أتوا به تقليدا للفلاسفة، فقد حزبه أمرهم، وأزعجه ضلالهم، وجاشت نفسه بما أتوا، فنسي أن الفلاسفة عاشوا في عصر غير عصره، نسي هذا كله وصبّ جام غضبه عليهم، وجعلهم نكالا لغيرهم، وأدّب بقوله فيهم معاصريه، وصار حال الفلاسفة كحال الثور في قول أنس بن مدرك الخثعمي: إنّي وقتلي سُليكًا ثم أعقلَه كالثورِ يُضربُ لما عافتِ البقرُ وذا مثل تضربه العرب لمن يُعاقب الإنسان بذنب غيره، وكانت العرب تضرب الثور حين تأبى البقر أن تشرب من الماء، وبعد ضربه يندفع الثور إلى الماء، وتلحق به البقر، وما ضُرب الثور إلا بجريرة البقر، وعدم ورودها الماء. لقد كانت المقدمة التي نسيها الغزالي حين أصدر تكفيره لأشخاص الفلاسفة، وليس آراءهم، المقدمة الأساسية في حكمه، وهي معرفة عصرهم، وكيف كانت حال التصورات الدينية فيه، فنسيانه هذا جرّه إلى فعل شبيه بفعل العرب مع الثور وبقره، وإذا كان الغزالي فعل ذلك، وأوقعته عاطفته الدينية فيه، فما يحق لمثلي أن يفعله، ويُغيّب جبروت العصر، وينسى العودة إليه، والتعرّف على ما فيه، فكيف كانت حال الدين في ذلكم العصر إذًا؟ لست أنكر أن هناك جدلا في حال الفلاسفة قبل أرسطو، وأنّ ابن تيمية (الرد على المنطقيين)، وتبعه ابن القيم (إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان)، يذهبان إلى أنّ أفلاطون وشيخه سقراط كانا من الحنفاء، وكانا مؤمنين بالله تعالى ورسله وشرائعه؛ غير أني أرى الصواب خلاف رأيهما، وأذهب إلى ما اختاره العقاد حين قال عن سقراط: "وكان يتكلم عن الآلهة تارة، وعن الإله تارة أخرى، إلا أنه يُنزهها جميعا عن تلك الخلائق البشرية التي تُعزى إليها في قصص الرواة وأساطير الشعراء"، وحين قال عن أفلاطون: "ولو لم يكن أفلاطون وثني البيئة لكان أرفع الإلهيين تنزيها للوحدانية، ولكن البيئة الوثنية غلبته على تفكيره، بحكم العادة وتواتر المحسوسات، فأدخل في عقيدته أربابا وأنصاف أرباب، لا محل لها في ديانات التوحيد" (الله جل جلاله، 138). وشبيه برأي العقاد قول د. راشد المبارك عن تدين أفلاطون:" تدين الإغريق يقوم على تعدد الآلهة مثل هيرا، وأبللو، وأفرودايت، وكبيرهم زيوس..، وما تركه أفلاطون _ فيما وقف عليه المؤلف _ لا يُشير إلى إنكار معتقد تعدد الآلهة، وما يقوله كهنتهم عنها" (شموخ الفلسفة، 30). وما قاله الباحثان هو ما وجدته في "محاورات أفلاطون"، وأحسبهما لم يقولا شيئا خلاف ما قرّره الغربيون في ديانة اليونان، وما كانوا عليه من تصورات دينية، وهكذا ننتهي إلى أنّ الغزالي يُحاكم الفلاسفة، ويُكفّر أشخاصهم، وهم في الدين وتصوره أحسن حالا من بيئتهم! ولم يَتَهيّأ لهم أن ينعموا بنور النبوة مثله، ولا أن يعيشوا في أفيائه كحاله، وما أظلم الإنسان حين يُحاكم إنسانا مثله لم يعش في مثل ظروفه، ولم يُتح له أن يعيش في عصره، وذاك هو ما أُسميه الظلم الخفي الذي يغفل عنه الكثيرون، وهم عنه سادرون!.

مشاركة :