د. محمد بن عوض المشيخي ** مساءات نوفمبر ونفحاته العطرة تعود من جديد حاملة بشائر الخير لأبناء هذا الوطن الغالي الذي يُشارك بتفانٍ وإخلاص قياداته الحكيمة عبر العقود في بناء هذا البلد العزيز على الرغم من الظروف الاستثنائية والتحديات الاقتصادية التي أثرت على جميع أفراد المجتمع وخاصة عامة الناس، الذين شكلت لهم الضرائب وارتفاع تسعيرة الوقود إلى مستويات قياسية وسياسة التقشف الاقتصادي بشكل عام، والمعروفة بـ"التوازن المالي"؛ هاجسًا مُقلقًا وصدمة غير مسبوقة، خاصة الذين غاب عنهم فهم الواقع الصعب لتداعيات تلك الأزمة وخطورتها على مستقبل الوطن؛ لكونها استهدفت جيوب المواطنين وقوتهم اليومي بشكل مباشر من وجهة نظر البعض. فالمواطن العادي ما تزال في ذاكرته وعود العديد من كبار المسؤولين في الدولة الذين كانوا يتحدثون بثقة مُطلقة بما معناه "لا مساس بمعيشة المواطن البسيط في السلطنة مهما كانت الظروف الاقتصادية". كما إن جائحة كورونا قد ضربت مفاصل الاقتصاد العماني وألقت بظلالها على مختلف القطاعات الإنتاجية في البلاد. هذا فضلا عن هبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها كما حصل في أبريل 2020 من العام الماضي عندما هوى سعر البرميل إلى أقل من 28 دولارًا؛ كل ذلك قد قلل من الخيارات المتاحة أمام الحكومة في مجال الإنفاق على مختلف القطاعات وتوفير موازنات إضافية للتوطيف وترقية الموظفين في القطاع المدني؛ خاصة الذين انتظروا لسنوات طويلة حقهم في الترقية. من هنا كان لابُد من اتخاذ سياسات تقشفية وقرارات صعبة لإنقاد السفينة من الغرق التي تحمل الجميع، فالنفط والغاز ولمدة خمسة عقود متتالية يشكل العمود الفقري لدخل السلطنة، فالإنفاق على مختلف المشاريع التنموية وصرف الرواتب ومختلف المصروفات الجارية من ريع النفط والغاز ومشتقاتهما اللذين يشكلان ما نسبته أكثر من 80% من ميزانية الدولة في البلاد. من هنا جاءت خطة التوازن المالي التي تتضمن سياسية غير مسبوقة في مجال التقشف الاقتصادي والمتمثلة "في دعم النمو الاقتصادي وتنشيط وتنويع مصادر الإيرادات الحكومية في البلاد، وترشيد ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي، وتعزيز منظومة الحماية الاجتماعية، ورفع كفاءة الإدارة المالية العامة". وبالفعل أثمرت جهود هذا القائد المقدام الذي تبنى خطة التوازن المالي وبحكمته المعهودة؛ أدرك أهمية تلك الخطة والتي صاغها شخصياً مع فريقه الاقتصادي الذي اختاره بعناية، فأتت بنتائج إيجابية نجني ثمارها جميعاً في هذه الأيام المباركة. بمجرد تحسن الأوضاع الاقتصادية وظهور المؤشرات الأولية لذلك التوازن المطلوب لموازنة الدولة؛ أتت التوجيهات السامية لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- سريعة خلال ترؤسه مجلس الوزراء الموقر مساء الثلاثاء الموافق 9 نوفمبر، ووضعت هذه التوجيهات الكريمة؛ النقاط على الحروف في تخفيف معاناة المجتمع طوال العامين الماضيين. ولعل ترقية الموظفين الحكومين من أقدمية عام 2011 اعتبارا من العام 2022 تأتي في مُقدمة هذه التوجيهات من حيث الأهمية، فطوال الشهور الماضية ساد شعور مقلق للكثير من الموظفين بسبب بعض التسريبات، وكذلك ما تم نشره من وزارة العمل حول القانون الجديد الذي يعتقد بأنَّه لا يشجع بأي حال من أحوال منتسبي هذا القطاع الهام على الحصول على الترقيات الدورية المستحقة حسب قانون الخدمة المدنية الذي طبق خلال عقود النهضة العمانية المتجددة، بل هناك خوف لدى الكثير من الموظفين من أن تتضمن بعض المواد في طياتها لغة المحاسية وحجب الترقيات والمكافآت عن الموظف البسيط، خاصة إذا أعطى القانون الجديد السلطة المطلقة للمسؤولين في تقييم الأداء المرتبط بمستقبل المنتسبين للقطاع المدني، فكان من الأفضل لوزارة العمل لو استعانت بالموظفين المنتسبين لمختلف الوزارات المدنية، خاصة مخرجات كليات الشريعة والحقوق للمشاركة في صياغة القانون لكونه؛ سوف يطبق عليهم عند اعتماده. ولا شك أن إنشاء وحدة لدعم واتخاذ القرار تتبع الأمانة العامة لمجلس الوزراء بهدف رفع مستوى الأداء وتعزيز كفاءة صنع القرار؛ لهي خطوة حكيمة وتوجيه سديد من لدن جلالة السلطان هيثم المعظم- يحفظه الله- في هذه المرحلة من تاريخ السلطنة؛ لكون هذا الجهاز أو الوحدة سوف يساعد على وضع خارطة طريق للوزارات والهيئات الحكومية وتجويد عملها لخدمة المجتمع العماني؛ إذ تعتمد معظم الحكومات وصناع القرار فيها؛ على المعلومات الصحيحة والبيانات الدقيقة، التي توفرها البحوث والدراسات العلمية؛ فالقرارات التي تبنى على التخمينات والاعتقادات الشخصية لا يُمكن أن يكتب لها النجاح. ومن حسن الطالع أن يكون مقالي المنشور في صحيفة "الرؤية" بتاريخ 17 أكتوبر الماضي الموسوم: "أهمية المعرفة في صناعة القرارات الإستراتيجية" قد دعا إلى التعجيل بإنشاء مركز علمي متخصص في الدراسات العمانية، يكون من مهامه دراسات المشاريع الحكومية والتخطيط للخطط الخمسية ومتابعة تنفيذ "رؤية 2040"، على أن يلحق بهذا المركز أفضل الباحثين العمانيين من جامعة السلطان قابوس والمؤسسات الأخرى. كما اقترح المقال تبعية المركز أو الوحدة المقترحة لمجلس الوزراء لكي تكون هذه المعلومات في متناول صناع القرار من أعضاء الحكومة. فإذا كانت هذه التوجيهات السامية قد لامست قلوب وعقول المواطنين العمانيين بلا استثناء، فإنَّ تثبيت أسعار وقود المركبات كان مطلبًا شعبيًا من الرأي العام العماني منذ عدة سنوات، ولكن تسعيرة أكتوبر الماضي كانت مُرتفعة، إذ ارتفع سعر اللتر الممتاز من 120 بيسة عام 2016 إلى 239 بيسة للتر حاليًا. وكلنا نتذكر تصريح أحد المسؤولين في مطلع 2015 عندما أكد- في ذلك الوقت- أن فارق أسعار البنزين الجديدة لا يمكن أن يتعدى بأي حال من الأحوال 40 بيسة كحد أقصى؛ فالمسؤول الذي يخاطب الرأي العام يجب أن يلتزم بالوعود التي قطعها على نفسه لكونه يتحدث باسم الحكومة. عليه ندعو من هذا المنبر اعتماد تسعيرة تناسب المجتمع وعلى وجه الخصوص بعض القطاعات التي يتطلب عملها استخدام كميات من الوقود خاصة الديزل والبنزين، فهناك عدد من الصيادين والتجار وسائقي سيارات الأجرة، وكذلك الموظفين الذين يعملون خارج محافظاتهم ويتطلب سفرهم يوميًا للوصول إلى محافظة مسقط والمدن الكبرى الأخرى التي تتواجد فيها مكاتب الوزارات والشركات الكبرى؛ قد خرجوا من السوق بسبب تكلفة الوقود التي تزيد على دخلهم من هذه الأعمال. ** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
مشاركة :