قال أبوعبدالرحمن: لقد كبرت سني حتى سلختُ خمساً وثمانين سنة, ورقَّ عظمي حتى صرت أتوكأ على العصا, ولم يبق لي من الدنيا إلا الزهد فيها، وقد نظرت في سير الزاهدين من المتقدمين فرأيتُ أني لا أقوى على أكثر ما يفعلونه, فالتفتُ إلى أهل زماني لعلي أجد زاهداً عابداً أَدْرك ما أدركتُه من الحياة, فوجدتُ أنَّ الشيخ الجليل (سعد بن عبدالرحمن الحصين) رحمه الله من خير الأمثلة القريبة المشاهدة في الزُّهد والدِّيانة, مع الصدع بالحق, ونصح الخَلق, والبعد عن الشهرة وأسبابها, وكان أبوه -رحمه الله- من أصلح من رأيت في مدينتي (شقراء)؛ فنشأ الشيخ (سعد) في بيئةٍ طاهرة صالحة ساعية إلى الخير, مبادرة إلى فعله, ولا أنسى فعل والده -وهو الشيخ الكهل- يقوم بخدمة الناس بالكتابة لهم أو قراءة ما كُتب إليهم, مع إحسان إلى الفقراء وغيرهم, حتى اختاره الله أنْ يموت بحرم رسوله مُقْبِلاً إلى الصلاة -رحمه الله-. قال أبوعبدالرحمن: عَرف الشيخ (سعد) من الدنيا ما لا أعرفه, فقد طاف أكثر من خمسين دولة, سجَّل طرفاً من ذلك في كتابه (سيرة مسافر سعودي), وأتقن لغة الخواجات, وأخذ درجة الماجستير من جامعة جنوب (كاليِفورنيا) في (لوس أنجلس), وعاش في (الأردن) ممثلاً للملحق الديني عشرين عاماً, ثم استقرَّ به النوى مجاوراً لبيت الله الحرام حتى لقي ربه مأسوفاً عليه, ومدفوناً في مقبرة العدل في مكة.. لقد رأى الدنيا بشقراء، ثم الرياض، فالطائف في دار التوحيد، ثم مكة، ثم ذهب إلى أرض كنانة (مصر العزيزة), متزوداً من العلوم العصرية, متابعاً أخاه معالي الشيخ الصالح -رحمه الله-, فحصل على الدّبلوم العالي من معهد الدِّراسات العربية العليا في الأدب العربي والدِّراسات الاجتماعية بالقاهرة عام 1380هـ.. وتنقَّل بين عدد من الوظائف في وزارة المعارف, وحاول جاهداً الإصلاح في الجانب التعليمي للمراحل الثلاث, وكانت محاولته نقلة نوعية فريدة كبيرة لو تمَّت واستمرت, والله غالب على أمره. قال أبوعبدالرحمن: قول (لو) هنا ليست من المنهي عنه؛ بل من الجائز إذا كان قولها بياناً للخير وإرادة فعله, وتطلعاً للمزيد منه, كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله موسى، لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما», وحديث: «لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار، يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل، ورجل آتاه الله مالاً ينفقه في حقه فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي لفعلت كما يفعل», وكلاهما في صحيح البخاري. قال أبو عبدالرحمن: تميَّز الشيخ (سعد) رحمه الله بمزايا أهمها: أولاً: وضوح الهدف, فلم يكن مشتتاً, عرف منهج السلف الصالح, وعرف أهمَّ ما فيه, من تحقيق التوحيد والدعوة إلى الله, والاجتهاد فيها أنْ تكون على منهج نبوي, والحرص على السنة, ونَصَبَ نفسه في التحذير من الشرك والبدع, والكتابة إلى من خالف المنهج السلفي (منهج أهل السنة والجماعة) بالرجوع عن مخالفته كائناً من كان, فلا تحصى نصائحه العامة والخاصة, وربما احترَّتْ بعض أحرفه على المخالف, فهو (مِدْفع فتح), لا (مِدفع سِرْهيد, ينبه الصائم فقط!), فقد كان يتمزق غيرة على دينه.. وثانياً: الإنصاف والعدل مع المخالف, فمراده صلاح المخالف لا استعداؤه, والمقصد الدعوة إلى السنة ولزومها, وقد شنَّ هجوماً مباركاً -بإذن الله- على الحزبية أفراداً وفِرَقاً فانتفع بذلك خلق من الناس, ومع ذلك لم يطغَ ويتعدَّ؛ بل كان يدعو لمن خالفه, وقال عن نفسه: (لم أحمِّل مسلماً إثماً ولم أدعُ الله أنْ ينتقم لي منه إذا اعتدى عليَّ بقول أو فعل، لعل الله أن يعفو عن نقصي وتقصيري في أداء حقِّه عليَّ بالشكر والذِّكر وحسن العبادة)؛ فرحم الله الشيخ سعداً وعوضنا خيراً.. وثالثاً: كثرة شكره لربه على ما منَّ الله به علينا في هذا البلاد المباركة (المملكة العربية السعودية) من دعوة إصلاحية قام بها الإمامان المصلحان محمد بن عبدالوهاب، ومحمد بن سعود -رحمهما الله-, فلهما علينا فضل كبير, جزاهما الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خيراً, وكذلك كثرة بيانه وكتابته لما تفضل الله به على الأمة في القرن الماضي من صقر الجزيرة الملك الجليل المبجل (عبدالعزيز آل سعود) أنزل الله على قبره شآبيب الرحمة, الذي جدَّد الله به نعمة الدين والدنيا. ورابعاً الزهد الحقيقي مع كون الدنيا تجري في يده ولو أراد لحصَّل خيراً كثيراً لكن لم يلق لها بالاً, فليس زهده مكرهاً عليه, بل ينفق أموالاً كثيرة في سبيل الله, فهو لا يكنز منه شيئاً, وأخبر عن نفسه أنه التزم القصد في المتاع الدُّنيوي، فلم يشتر سيَّارة ولا أثاثاً للزِّينة، ولم يقْتَنِ جهاز النّداء (بيجر) في زمنه، ولا الجوُّال بعده، ولا أكل وجبة العشاء منذ نصف قرن ولا وجبة الفطور منذ (30) سنة إلا نادراً ولا شرب القهوة ولا المشروبات الغازيَّة أبداً، ولا دخل على حلَّاق ولا خيَّاط؛ بل يكتفي بلباس يشتريه بدراهم معدودة, وهو لا يحمل الناس على ذلك؛ بل ترك ذلك زهداً فيهولم يكن يتصنَّع أو يُصَانِع, بل كان على سجيته وطبعه. قال أبوعبدالرحمن: كان الشيخ (سعد الحصين) فريداً في نظرته وطريقته, فقد أخبر عن نفسه أنه منذ بلوغه الحُلُم وضَع سياجاً من النوافل دون الرواتب قبل الفرائض حتى إذا انشغل بجدٍّ أو بهَزْلٍ عن المحافظة على الوقت بَقِيَتْ له الفرائض؛ بل وضع سياجاً من النوافل دون النوافل بعد بلوغ الأربعين متدبِّراً قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأحقاف/ 15).. وما زلتُ محتفظاً بما كتبه الشيخ البار بمشايخه الأستاذ الدكتور (محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح) أستاذ المعهد العالي للقضاء الذي كنتُ طالباً فيه قبل خمسين سنة, فقد كتب مقالة مطولة عن الشيخ (سعد الحصين) بعد وفاته, نشرت في هذه الصحيفة على جزأين؛ وهي مقالةٌ مؤثرة لمن أدرك كلام القلوب إذا كتبتْ, ثم جمع الدكتور (الفريح) ما تمت كتابته عن الشيخ من مقالات في كتاب مطبوع متداول. قال أبوعبدالرحمن: ممَّا سرني كثيراً أنَّ الشيخ (سعد الحصين) -رحمه الله- عهد إلى الشيخ الدكتور (محمد الفريح) النظر في كتبه والإشراف عليها وطباعة ما يسره الله؛ فقام بالمهمة أعانه الله -عز وجل- عليها وعلى كل خير, فأحسن إلى الشيخ وأحسن إلينا, فقد طُبِعَ تحت عنايته (مهذب تفسير الطبري, ومهذب تفسير ابن كثير, ومهذب تفسير الجلالين)؛ وهذه تفاسيرٌ مهمة عظيمة, وأرجو الله -عز وجل- أنْ تُغني هذه عن جميع المهذبات التي سبقته, خاصة ما يتعلق بتفسير ابن كثير, فقد اختصره من ليس من أهل العلم والاتباع, أما الشيخ (سعد) فهو من أهل الصنعة والدقة والفهم وحسن الإدراك، ثم هو العالم السلفي، ثم هذا المهذَّب سيكون -بإذن الله- خالياً مما ليس ضرورياً فضلاً عما كان خطأ، أو سهواً، أو زيادة في كلام.. ومما بشَّرني به الدكتور (الفريح) أنه سيُطبع قريباً مجموع مقالات كتبها الشيخ (سعد) رحمه الله عن عدد من العلماء وعن غيرهم تحت عنوان (أعلام وشخصيات), وأنَّ سيره الثلاث (سيرة طالب علم, وسيرة داعٍ إلى الله, وسيرة مسافر سعودي) تمَّ جمعها؛ لتكون في مجلد واحد.. وأقول في ختم مقالي كما قال شيخنا الزاهد -رحمه الله- في خاتمة كتابه (سيرة مسافر سعودي): ((أنا الآن في انتظار نهاية سفري المحتم إلى القبور راجياً رحمة الله وفضله وكرمه ورأفته وعفوه ومغفرته ما لازمني من نقص وتقصير وغفلة وأخطاء لا يفوقها عدداً إلا نعم الله عليَّ بالدين والدنيا {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك. ومع ما فطرنا الله عليه من محبة للحياة وكراهية للموت فإنني أدنو من الموت راضياً بقسمة الله تعالى موقناً أن ما عند الله خير لعبده، وقد تعودت منه حسن العاقبة في كل أمر، ولله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم، وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى، والله المُستعانُ. ** ** (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -
مشاركة :