قال أبو عبدالرحمن: مِن الشعر العاميِّ المليح قول الشاعر الوجداني فهيد بن عبدالله المجماج راعي الأَثْلة - ومَن نسبها إلى غيره فقد أخطأ -: حِبِّهْ يِخِجَّ القلبِ ما يوجعْ اُوْجاع لا شكِّ قلبيْ مِوْدِعِه بيتِ نَمْلَهْ ومَنْ لم يتدرَّب على بلاغة الفصحاء والعوام يظن أن هذا تناقض؛ فكيف يكون حبُّ ليلاه كالنسيم العليل يُرَوِّح القلبَ ولا يُوجِعه بالآلام، ثم يكون مُخَرِّقاً قلبَ الشاعر بالثقوب كبيت النملة التي هي أصغر ثُقْبٍ؟!. قال أبو عبدالرحمن: استلهمتُ من النص بيقين أن ليلاه متوسطة الجمال، والجمال شهيٌّ في العين والأذن.. ولكنها مليحة، والملاحَة - وإن كان الجمال متوسطاً - ذات جاذبية للروح، ولا حبَّ حقيقيَّ إلا بِجَذب الروح؛ فهي في روحه هو مليحة جَذَّابة، وهي في أعين الآخرين شهية بجمال متوسِّط.. قال الإمام أبو محمد ابن حزم الظاهري -رحمه الله تعالى- (وحسبك به في العلم بفلسفة الحب): ((وقد اختلف الناس في ماهيَّته (يعني الحبَّ)، وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه: (اتصال بين أجزاء النُّفوس المقْسومة في هذه الخليقة في أصل عُنصرِنا الرفيع) لا على ما حكاه محمد بن داود -رحمه الله- عن بعض أهل الفلسفة: (الأرواحُ أُكَرٌ مقسومة) لكن على سبيل مناسبة قواها في مقرِّ عالمِها العُلويِّ، ومجاورتها في هيئة تركيبها)) (مختصر طوق الحمامة ص 142 - 143). قال أبو عبدالرحمن: مذهب الإمام محمد بن داوود الظاهري -رحمه الله تعالى- تكهُّنٌ ميتافيزيقي، ومذهب أبي محمد مبنيٌّ على ما اعتقده - وهو الأصح برجحانٍ من النصوص الشرعية - في تأويل قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (سورة الأعراف/ 172)؛ مع النصوص عن النِّسم، من الخبر عن نفخ الروح ولم يذكر أن خَلْقها استجد؛ مما يدل على تقدُّمِ خلقِ الأرواح على خلق الأجسام، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.. وبَنَى مذهبَه على الحديث الذي سيأتي إن شاء الله (القلوب جنود مجندة)؛ للدلالة على المشاكلة.. ولستُ أتيقَّن هذه الفلسفة نفياً ولا إثباتاً، ولكن الذي جرَّبته في حياتي المليئة بالعواطف أن الملاحة هي سِرُّ الجذب الروحي، وأن الجمال مُتعة للعين والأذن، والمليح قد يكون متوسط الجمال، وهو (المُكَلْفَخْ) عند العوام، وقد سبق لي في مناسبةٍ من هذه الجريدة إيرادُ قول الشاعر العامي: تَرَى الْمْكَلْفَخْ يِجِي مَمْلُوحْ والزين مَنْ دَقَّتْ أشباهِهْ وكم مِن مُكَلْفَخَةٍ عَذَّبت العشاق، والله المستعان (واحْلَى العمر عَدَّيته).. ثم قال الإمام ابن حزم : ((وقد علمنا أن سرَّ التمازُج والتبايُن في المخلوقات إنَّما هو الاتِّصال والانفصال، والشكلُ دأَباً يستدعي شَكْلَهُ، والمِثلُ إلى مِثْله ساكنٌ، وللمُجانَسة عملٌ محسوس وتأثيرٌ مُشاهَدٌ.. والتنافرُ في الأضداد، والموافقة في الأنداد، والنزاع فيما تشابَه موجودٌ فيما بيننا؛ فكيف بالنَّفْس وعالمها العالم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصَّعَّاد المعتدل، وسِنْخها المهيَّأُ لقبول الاتِّفاقِ والمَيلِ والتَّوقِ والانحرافِ والشهوةِ والنِّفارِ.. كلُّ ذلك معلومٌ بالحضرةِ في أحوال تصرُّف الإنسان فيسكُنُ إليها، والله عزَّ وجلَّ يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (سورة الأعراف/ 189)؛ فجعل علَّة السُّكون أنَّها منه.. ولو كانَ علَّةَ الحبِّ حُسْنُ الصورةِ الجسديَّة لوجبَ ألا يُسْتَحْسَن الأَنْقَصُ من الصُّور، ونحن نَجِد كثيراً مِمَّن يُؤْثِرُ الأدْنى ويعلَمُ فَضْلَ غيره ولا يجدُ مَحيداً لقلبه عنه، ولو كان للموافقة في الأخلاق لَمَا أحبَّ المرءُ مَن لا يُساعدُه ولا يُوافقُه؛ فَعَلِمْنا أنَّه شيئ في ذاتِ النَّفْسِ)) (المصدر السابق ص 143 - 144). قال أبو عبدالرحمن: الآن آمنتُ بصحة ما قاله الإمام عن الاتصال والمشاكلة، ومحال أن يعشق الإنسان بهيمةً على سبيل الحب الروحي؛ وإنما ذلك شَبَقٌ جنسي، وما أكثر مظاهر القنوع عند مُحِبِّي الملاحةِ بالجذب الروحي كما عند العذريين والرومانسيين؛ فَيُشْبِع نَهَمهم المحادثةُ والمؤانسة، وأن القمر سميرهما، وتُؤانسهم الطبيعة بجمالها وتتفاعل معهم، ولا تجد للشبق الجنسي وجوداً في مأثورهم؛ فلله دَرُّهم هذا هو الحب النزيه الذي تسلم فيه الجوارح من الفحشاء قبل العقد بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه.. وهذا الحب العذري من الَّلمم إذا سلمت الجوارح، ولم يكن الدافع غريزة جنسية.. قال الإمام أبو محمد : ((والحبُّ ليس بمنكر في الديانة (يعني عموم الديانة بآدابها وعقيدتها)، ولا بمحظور في الشريعة (يعني أحكام الفقه العملية)؛ إذ القلوب بيد الله عزَّ وجل)) (المصدر السابق ص 137).. وقال الإمام عن هذا الحب بجاذبية الروح: ((حاشا (هذا استثناء من الحب لدوافع دنيوية) محبةَ العشق الصحيح المتمكِّن من النفس فهي التي لا فناءَ لها إلا بالموت؛ وإنك لتجد الإنسان السالي بزعمه، وذا السِّنِّ المتناهية إذا ذكَّرته تذكَّر وارتاح وصَبا (صَدَق الإمام)، واعتاده الطَّرَبُ واهتاجَ له الحنين.. ولا يَعرض في شيئ من هذه الأجناس المذكورة - من شُغل البالِ، والخَبَل، والوسواس، وتبدُّل الغرائز المركَّبة، واستحالة السجايا المطبوعة، والنُّحول، والزَّفير، وسائر دلائل الشَّجا -، ما يعرض في العشق (قال أبو عبدالرحمن: مَن أراد الاستزادة فليراجع كتابي (كيف يموت العشاق؟))؛ فصحَّ بذلك أنه استحسان روحانيٌّ، وامتزاجٌ نفسانيٌّ.. فإن قال قائل: (لو كان هذا كذلك لكانت المحبَّة بينهما مُستوية؛ إِذ الجزءان مشتركان في الاتِّصال، وحظُّهما منه واحدٌ): فالجواب عن ذلك أن نقول: هذه لعمري معارَضةٌ صحيحةٌ، ولكنَّ نفسَ الذي لا يُحبُّ من يُحبُّه مُكْتَنَفَةُ الجهاتِ ببعض الأعراض الساترة، والحجب المحيطة بها من الطَّبائع الأرضية؛ فلم تُحِسَّ بالجزء الذي كان مُتَّصلاً بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلَّصتْ لاستويا في الاتصال والمحبة.. ونفس المحبِّ متخلِّصةٌ عالمةٌ بمكان ما كان يشركها في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدةٌ إليه، باحثةٌ عنه، مشتهيةٌ لملاقاته، جاذبةٌ له لو أمكنها؛ كالمغنطيس والحديد)) (مختصر طوق الحمامة ص 145 - 146). قال أبو عبدالرحمن: ولهذا قال المُجَرِّب الوامق: ما الحبُّ إلا أن تُحِبَّ (م) وأن يحبَّكَ مَنْ تُحِبُّهْ قال أبو عبدالرحمن: فهذا ألمٌ من الحُجُبِ الساترة التي ذكرها أبو محمد، ثم قال الإمام: ((ومن الدليل على هذا أيضاً أنك لا تجد اثنين يتجاذبان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق في بعض الصِّفات الطبيعية.. لا بد من هذا وإن قلَّ.. وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة، وتأكدت المودَّة؛ فانظر هذا تره عِياناً، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: (الأرواح جنودٌ مُجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكَر منها اختلف (وهو في البخاري عن عائشة رضي الله عنها)، وقولٌ مروِيٌّ عن أحد الصالحين : أرواح المؤمنين تتعارف؛ ولهذا ما اغتمَّ بقراطُ حين وُصِفَ له رجل من أهل النقصان يُحبُّه؛ فقيل له في ذلك فقال: ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه)) (المصدر السابق ص 147). والخج عامية، وهي عند العوام حكاية صوت الخجخجة من أي شيء إذا لامس رطباً خضه؛ لأن ذلك صوت كصوت الخج في لهجتهم التي هي طعن رطبٍ أو يابس أحدث صوت الخجخجة، والنسيم العليل يُقَرْقِعُ بالقلوب اليابسة المتلهِّفة.. ولا يخرقها، ولكنَّ حبَّ ليلى خرَّق قلب المجماج. قال أبو عبدالرحمن: إن قال ذو يبوسة: (ما هذا الهُيامُ يا ظاهري؟).. قلت: إليك عني؛ فبالنسبة لي فالقلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وبالنسبة لغيري فأحب أن أجذبهم إلى عزائم العلم وحرائر الفكر بما يُدَغْدِغهم، وإلى لقاءٍ قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان. ** ** كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل)- عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -
مشاركة :